مرحبا بالزوار ..

مرحبا بالزوار في مدونتي الأولى .. يسعدني تشريفكم وإطلالتكم .. (خالد الحربي)














السبت، 31 يوليو 2010

عودة القُصَّاص والحكواتية ..!!

في هذه الأيام - بل من سنوات قريبة - بدأ موّال جديد يروج في سوق الثقافة والمثقفين ..
ولهذا الموال سعاته والمبشرون به وهم النخبة ذات الرؤية النافذة والإدراك العميق!! ..

تقديري أن هذا التيار أو الموال سيزول كما بدأ .. كأي موضة في الأزياء النسائية ..

حقيقة لا أدري ما هي الشريحة المستهدفة لهذا النهج الجديد؟ ..

أهم مدراء الإدارات أم طلاب التحافيظ أم رعاء الشاء..؟

أهم المنظرون أم الدعاة أم الأعراب الجفاة..؟!

أصبحت معظم الشركات الكبرى وهيئات التدريس والمؤسسات الحكومية تمنح منسوبيها إحدى هذه الدورات طلبا لتحسين الأداء الوظيفي
وصقلا لمهارات كوادرها ..

ومن أمثلة هذه الموالات:"العادات السبع" .. "فن التعامل" .. "بناء الثقة" .. "مهارات التغيير" .. "كيف تتعامل
مع مرؤسيك" .. "إدارة الوقت" .. "البرمجة اللغوية العصبية NLP" .. وفي نفس الباب دراسات وكتب وكتيبات وكتب جيب كثيرة ومتنوعة تعج بها المكتبات .. مثل: "دع القلق وابدأ الحياة!" .. "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في النفوس" كلاهما لديل كارنيجي وهو أحد صناع الحياة - والعجب أنه مات منتحرا!!- .. "ثلاثة عشرة قاعدة أساسية تقودك إلى النجاح" .. "ثمانية أصول لتتجاوز العقبات"، كلاها لمؤلفين خواجيين .. "النصائح الذهبية العشرة " لمجموعة دكاترة من جامعة أكسفورد ..

بل الأدهى أنه قد زادت أشكال وألوان هذه الخزعبلات فاسمع لهذه الموديلات الجديدة:

دورات التدريب على الريكي .. دورات التدريب على التشي كونغ .. دورات التنفس العميق والتنفس التحولي .. دورات
التأمل الارتقائي .. دورات الاسترخاء .. دورات اكتساب الغباء .. دورات البرمجة اللغوية
العصبية .. دورات الماكروبيوتيك .. دورات التاي شي .. دورات المشي على النار ..

وسنستورد كل سنة المزيد من هذه الأفكار العوجاء .. حتى نستغني عن ثلث التراث الإسلامي مع المحافظة على الثوابت طبعا ..

أي ثوابت بارك الله بك؟! ..

كأن المسألة مسألة تأجير عقول أو تفكير بالوكالة!! أو كأننا لا يمكن أن نرتقي إلا بهذه الدورات رغم ما وهبنا الله من ذكاء
نسبي ووعي عادي ..

الذي آسف له وأطاطئ منه رأسي خجلا حتى لتكاد الأرض تبتلعني هو تسارع وتهافت بعض الدعاة والمشايخ ومن له
نسبة للعلم - الشرعي بس - على حضور هذه الدورات وتطويعها لخدمة الدعوة وتسخيرها لنشر الدين!.. واخجلتاه!!..
قصة منسوبة للأديب المسلم سيد قطب تبين شيئا مما أريد بيانه .. يروى أنه حينما قُدم سيد للإعدام بعثوا له بشيخ أزهري معمّم ليلقنه الشهادة قبل أن يعدم - وهذا سائر عندهم - تقدم الشيخ من سيد وأفهمه أنه جاء ليلقنه الشهادة .. فقال له سيد:
وماذا كنت أفعل طوال عمري؟ .. إن "لا إله إلا الله" التي تستأكل بها وتعيش بها هي التي أموت من أجلها .. سيأتي مزيد
كلام عن نقد هذا الاتجاه ..

قامت إدارة قسمنا مرة بعقد دورة لموظفيها عن "العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية The 7 Habits For The
Highly Effective People" لفضيلة الشيخ ستيفن كوفيي .. وزّع علينا المدرب - أو الحكواتي بتعبير أدق - كتاب الشيخ ستيفن ومعه شريط له .. ومعه كذلك إضبارة محشوة بأوراق وجداول وخطط يومية وأسبوعية وشهرية وحولية وعمرية ومربعات وفراغات وطلاسم وتعاويذ .. كان عددنا في الدورة قرابة الأربعين .. خرج بعض الزملاء مبهورا ومطبلا للدورة وحسن أداء المدرب - وبحق فقد أجاد الدور -.. أبديت له مخالفتي لفكرة الدورة من أصلها فزاد عناده وأظهر التزامه بتعبئة الجداول والفراغات إلى حين الوفاة - نسأل الله حسن العاقبة - .. لو أنني حلفت ما حنثت أن أحدا من الزملاء لا زال ملتزما بطريقة المؤلف لشهر واحد
فقط ..!!

حقيقة يا معشر الطيبين! أن الشغلة كلها بكش وبيع كلام وتقليعة جديدة لمن ملّ الرتابة في دنياه أو أراد ابتكار حيلة جديدة
لأكل أموال الناس بالباطل ..

هذه التقليعة أشبه شيء بالأباطيل والأسمار ومدربوها أشبه شيء بالقصّاص والحكواتية كما قال الشاعر:
هل صحّ قول من الحاكي فنقبله *** أم أن ذاك أباطيل وأسمارُ؟!!
أما العـقول فآلت أنه كـذبٌ *** والعقل غرسٌ له بالصدق إثمارُ ..

العجب أن القصّاص والحكواتية يتسمون بأسماء كبار ليسدوا النقص الذي يعيشونه ..
يتسمون بـ: ممارس.. ممارس أول.. كبير ممارسين..... !


قال الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتصم فيه ومعتضد ..
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ..
تماما هؤلاء الممارسون كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد ..

إن العلوم غير الشرعية إما علوما طبيعية تجريبية كالفيزياء والهندسة والطب أو علوما إنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس
وعلوم التربية .. أرجو قبول هذه القسمة حتى ولو تنزلا..
أما الأولى فعلى العين والرأس وبها ونعمت .. وهي ملك مشاع تتوارثها الأمم وتزيد فيها .. ومن أسباب انحطاطنا - كما
يقرر ذلك أبو الحسن الندوي - تخلفنا في الأزمنة الأخيرة في هذه العلوم .. أما النوع الثاني ففيه كلام كثير .. ولكن ما أود ذكره أنه رغم قبول العالم الإسلامي لعلوم النفس والاجتماع والتربية والفلسفة والقانون ووو... وتدريسه لها في مناهج التعليم الثانوي والجامعي وعمل دراسات وإعداد بحوث وطروحات ماجستير ودكتوراه .. فضلا عن نفقات إنشاء مباني للكليات ورواتب الدكاترة والمعلمين ونفقات طباعة الكتب والمذكرات .. رغم كل ذلك فإن هذه تصرفات هوجاء وتقليد أعمى وهدر للمال في غير وجهه وليس لها أي داع بل هي ضرر وإضرار وتعطيل لعجلة التنمية ..

يخرّج لنا قسما علم النفس وعلم الاجتماع أخصائيين نفسانيين وأخصائيين إجتماعيين كل سنة .. أراهن أن أكثر من نصفهم
فهم تخصصه كما هو أو على الأقل مقتنع به.. [دخل القسم لانخفاض معدله أو لسهولة القسم أو لأسباب مادية أخرى] ..

علم النفس له أكثر من 250 مدرسة معترف بها في الولايات المتحدة .. من أشهرها المدرسة السلوكية ومدرسة التحليل
النفسي .. ولعلم الاجتماع نظريات متباينة: نظرية العقد الاجتماعي .. المدرسة الطبيعية .. المدرسة الوضعية العقلية .. التفسير الميكانيكي للمجتمع .. قل لي بأي مدرسة يعامل ويعالج الأخصائي الناس .. وهذه المدارس متناقضة الأفكار
والأهداف .. كلها خزعبلات وضحك على الدقون ..

الواعظ العامي من جماعة التبليغ يتكلم ببيان ويمتاز بأخلاق ما تجزم أنه ناجح إجتماعيا وهو لم يسمع بفرويد ولا إنجلز
ولا برتراند رسل ولا آدم سميث ولا كانط ولا جنط ..

عجبا لعلوم عديمة الفائدة! ..

هناك في الغرب عدد من المفكرين يتشككون هل علم الاجتماع علم أم لا؟!!..
قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - عن علم النفس: "وهو ليس بعلم ولا شبيها بالعلم"..
وذكر صاحب كتاب "العلمانية" أن بعض المفكرين ومنهم ستيوارت تشيس أنه ما زال يتردد في تسمية علم الاجتماع
اللاديني علما..أ.هـ.
وكتب الدكتور أحمد خضر كتابا يزيد عن ثلاثمائة صفحة سماه "إعترافات علماء الاجتماع" أنكر فيه علم الإجتماع من
أصله .. دعّم كتابه بنقولات كثيرة للغربيين أنفسهم .. والجدير بالذكر أن الدكتور خضر هذا دكتور في علم الاجتماع! ..
الدكتور يحيى اليحيى في كتابه: "في أخلاقنا غنية" حاول إقناع الجمهور المتهافت وكبح جماحهم شيئا جزاه الله خيرا ..
فبين أنا لا نحتاج نتاجهم بل لدينا أرضية صلبة متماسكة من علوم الإخلاق والمعاملات وتزكية النفوس .. التي هي أجمع
وأوسع وأكمل من علومهم الإنسانية ..

وكتب الدكتور خالد الغيث في جريدة المدينة مقالة بعنوان "حقيقة المشي على الجمر" ذم علم البرمجة اللغوية العصبية
وأشار إلى أصوله الوثنية وطقوسه الشركية ..

قرأت مرة للشيخ علي الطنطاوي في "فصول اجتماعية":
"قال: تتكون العادة من مرة واحدة؟
قلتُ: نعم، هذا ما يراه وليم جيمس، شيخ الفلسفة العملية اليوم وإمام السلوكيين في علم النفس. وهو لم يأت في ذلك بجديد،
بل هو يردد ما قاله قبله بألف سنة فقهاء المذهب الحنفي.
قال: وما يدري فقهاء المذهب الحنفي بعلم النفس؟ قلت: إن في هذه الكتب "الصفراء" التي انصرف الشباب عنها ذخائر
من العلوم، ولكنا تعوّدنا ألا نقيم لقول وزنا إلا إذا قاله عالم أوربي أو أميركي. وهاك كتاب "الإحياء" للغزالي مثلا، فاقرأه
تجد فيه من أحوال النفس ما ليس في كتاب في الدنيا." ..

وهذا نقل للأديب المجاهد سيد قطب .. وهو موجود ضمن رسائله الخاصة التي طبعت مؤخرا ..
قال الدكتور صلاح الخالدي:
ومنها قوله - أي سيد - عن أمريكا في رسالته لزميله الأستاذ محمد جبر: "إن أمريكا أكبر أكذوبة عرفها العالم! .. نستطيع
أن نفيد من أمريكا في البعثات العلمية البحتة: الميكانيكا والكهرباء والكيمياء وما إليها .. فأما حين نحاول أن نستفيد من أمريكا في الدراسات النظرية - ومنها طرق التدريس - فأحسب أننا نخطئ أشد الخطأ، وننساق مع الطريقة الأمريكية في الإعلان! ... أما أولئك الذين يتحدثون عن أمريكا كما يتحدثون عن الأعاجيب السبع، فهم يحاولون أن يستمدوا لهم طريقة
جديدة لأنفسهم، من وراء هذا التهويل!" ..

وقال سيد أيضا: "كنت دائم الشعور باستخسار هذا الشعب، الذي يصنع المعجزات، في عالم الصناعة والعلم والبحث، ألا
يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى!! وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها لهذا الشعب، وهو فقير من
تلك القيم الإنسانية جميعا!!!" ..

لا أريد الاستطراد ولكن الموضوع له جوانب متعددة مترابطة ترابط وثيق .. والمسألة ليست وليدة الساعة بل لها مخلفات
قديمة غير أنها طفت على السطح مؤخرا بصورة جديدة جذابة عند السطحيين ..

الذي أفهمه أنهم يهدفون من وراء هذا الموّال الجديد والاتجاه الفريد لإصلاح النفوس وتهذيبها وتقويمها ورفع كفاءتها
الإنتاجية والنوعية .. ولكن هل لدينا نقص في الجانب الذي سيسده ويسدده هذا التوجه الجديد؟ هل ديننا القويم الكامل وتراثنا العريق في مجال العلوم لإنسانية لم يسد هذه الخلة؟! .. ألم يؤهلنا ديننا ولو لفترة مضت لقيادة العالم نظريا وعمليا؟! ..

***
بعد هذه الخطبة أقول:
أولا: نعم اتفق أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها .. قال الشيخ سفر في رده على المفكرين الأمريكيين الستين:
"إن الدائرة الإسلامية مهما اتسعت لا تدعي أبداً احتكار الحق أو العدل لمن هم داخلها كما يتوهم كثيرون في الغرب - ربما بناءً على أخطاء بعض المسلمين في فهم الإسلام وتقديمه - بل هي تعلم عن يقين أن من قواعد الشريعة أنه حيث كان العدل فثم شرع الله، وأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها" .. ثم قال بعد ذلك: "ومن هنا لم يتحرج فقهاء
الإسلام بل الخلفاء الراشدون من الإفادة من أي مصدر كان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قرر حكماً شرعياً - مخالفاً لما كان عليه العرف العربي - استناداً إلى أن الروم وفارس يفعلونه" ويقصد به الشيخ سفر حكم "الغيلة" – رضاع الطفل من أمه الحامل – والحديث فيه رواه مسلم ..

كذلك أنشأ أحد الخلفاء الراشدين ديوان الجند مقتبسا من الأمم المجاورة .. وقام السلطان محمود الثاني – من أواخر
سلاطين آل عثمان – بإعداد أول جيش نظامي في الدولة العثمانية على نسق الجيوش الأوربية نظرا لتقهقر الانكشارية وانهزامهم .. ونقل ابن المقفع "كليلة ودمنة" من الفارسية إلى العربية .. والفرس قبل ذلك نقلوها من الهندية إلى الفارسية .. وقد حوت
جملة من نصائح وتجارب حكماء الهند ..

مثال أخير يبين الاستفادة من الآخر مما لا مضرة فيه على الدين: قال الشيخ الأديب علي الطنطاوي في "ذكرياته":

"وهناك طريقة جميلة لتدريس علم النحو عند الفرنسيين، فإذا أردت أن تعرف الفاعل تسأل مثلا من هو الذي ضرب؟ وإذا أردت أن تعرف المفعول به تسأل من هو الذي ضُرب؟ وإذا أردت أن تعرف الفعل تسأل ما الذي فعله الضارب؟ …
وهكذا الحال وظرفا الزمان والمكان.."..

إن كتب التراث الإسلامية والعربية مملؤة بحكمة الصين وطب الهند وفلسفة اليونان .. ففي كتاب "عيون الأخبار" لابن
قتيبة .. وكتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه .. وكتاب "نشوار المحاضرة" و"الفرج بعد الشدة" للقاضي التنوخي .. وكتاب "الحيوان" للجاحظ .. وكتاب "الأذكياء" لابن الجوزي .. وكتاب "المستطرف" للإبشيهي وغيرها .. فيها مئات بل
آلاف الحكم واللطائف والظرائف والنكات من كنوز الأمم الخالية ..

لا بأس أن أطرفكم بشيء منها: وهو ما جاء في "الفرج بعد الشدة" مشيدا بفضيلة الصبر .. قال القاضي التنوخي: سخط
كسرى على بزرجهمر فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفد بالحديد. فبقي أياماً على تلك الحالة، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو مشروح الصدر مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال!. فقال: اصطنعتُ ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها فهي التي أبقتني على ما ترون! قالوا: صف لنا هذه الأخلاط لعلنا ننتفع بها عند البلوى. فقال: نعم. أما الخلط الأول: فالثقة بالله عز وجل، وأما الثاني: فكلّ ما شاءه الله كائن، وأما الثالث: فالصبر خير ما استمهل الممتَحن، وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع ولا أعين نفسي بالجزع؟ وأما الخامس: فقد يكون أشدُّ مما أنا
فيه، وأما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج. فبلغ ما قاله كسرى، فأطلقه وأعزّه. أ.هـ.
ثانيا: هم يقولون في مقدمة دراسة الهندسة اللغوية العصبية NLP: "كذلك الإنسان يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فالإنسان يكتسب من أبويه ( وأسرته، ومدرسته، ومجتمعه ) معتقداته، وقيمه، ومعاييره، وسلوكه، وطريقة تفكيره. كل ذلك عن طريق حواسه، و عن طريق اللغة التي يسمعها منذ صغره، ويقرأها عندما يتعلم القراءة. تذهب جميع هذه المعلومات إلى دماغه وجهازه العصبي، فيكون صورة للعالم من خلال ذلك. ولا يكون لديه إلا ذلك العالم الذي تشكل في ذهنه، بغض النظر عما يحدث في العالم الخارجي. ومن ناحية أخرى فإنه إذا تغير ما في ذهنه، فإن العالم بالنسبة له سيتغير، بغض النظر عما يحصل في العالم الخارجي. وبالتالي فإن الإنسان إذا اعتقد أن بإمكانه أن يقوم بعمل ما، أو اعتقد بأنه لا يمكنه أن يقوم به، فإن ما يعتقده صحيح في الحالتين. مادا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أن الإنسان يستطيع
تغيير العالم عن طريق تغيير ما في ذهنه!! ولكن كيف يمكنه تغيير ما في ذهنه؟"..

قلت: وهل في هذا الكلام جديد؟!..

إن من الأكاذيب الكبار التي يتشدق بها المطبلون لهذا التيار أنه إذا تغير ما في ذهنك فإن العالم سيتغير بغض النظر عما
يحصل في العالم الخارجي .. هذا كلام مثالي لا يمكن للبشر لأي إنسان أن يفعله بحذافيره .. الإنسان يعتريه خوف وحرص وجوع وفتور ونسيان .. ويحسد ويحتال ويخادع .. مهما كان هذا الإنسان .. هل يمكن أن يغير الناس أذهانهم وسلوكهم عن طريق كتب الخواجات وفشلت كل تراثات الأمم السابقة؟! هل عندهم جديد حقيق بالدرس والمطالعة؟ لا يمكن أن يكون هذا ..

كما أن
مسألة الطبائع والتصورات والعادات مسألة عميقة راسخة في النفوس .. ليس بدورة مدتها شهر أو أسبوع ورسوم 2000 ريالا سعوديا يغير المرء طريقة حياته .. ويخرج راشدا .. بل تحتاج إلى دربة ومرافقة وصبر وتضحية .. وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ..

إن تقويم الأخلاق وإصلاح الجبلات وتهذيب الأنفس .. لا يتصدى له إلا نبي أو مصلح بمواصفات خاصة .. ليس حكواتي أو بيّاع كلام ..


لو أخذ بوش أو شارون دورة في البرمجة اللغوية العصبية .. أراهن إن تغير من فكره المنكوس قدر أنملة.. كثير من
شرائح المجتمع هكذا.. بل أكثر من في الأرض هكذا .. هذه الدورات لا يستفيد في الألف منها إلا واحد.. وقبل ذلك نحن
أصلا لسنا في حاجة إليها ألبتة ..

يتركونا خلاص.. لهم فلسفتهم وحضارتهم ولنا فلسفتنا وحضارتنا.. لهم دينهم ولنا ديننا..

ثالثا: المشكلة أن الحكواتية والقُصَّاص من بني جلدتنا الذين تلقفوا هذه الأشياء – ولا أقول العلوم – ظنوها وحسبوها فتحا عظيما ونصرا مجيدا .. إن مشكلتهم الأساس جعلهم الأصل فرعا والفرع أصلا .. وبعبارة أفصح
هجر مصادر التلقي الأساسية في ثقافتنا وحضارتنا الزاخرة بكل العلوم والفنون .. فالمفروض أن لا تجعل هذه الكتب منهاجا ومرجعا ومتنا يشرح للناس وتوضع عليه الحواشي والتعليقات والإضافات من آي القرآن وأحاديث المصطفى
صلى الله عليه وسلم وآثار السلف وسير علماء وأبطال الإسلام بل العكس قد يقبل استئناسا فحسب ..

إن تدريس الناس هذه الكتب لنتعلم منها منها مكارم الأخلاق وطرائق النجاح طريقة عوجاء وتخليط في ترتيب الأوليات ..
والمنبغي تربية النشء والشباب والكهول والشيوخ والنساء على الدين وآثار السلف وكتب التراث الحافلة .. فإن اتفق واقتبس شيء من حكمة الهنود أو تجارب الأفارقة فلا بأس بشرط أن لا يتعارض مع أصولنا فإن تعارض نفضناه من
أيدينا ..

خذ هذين المثالين ولاحظ أهمية ترتيب مصادر التلقي:
قيل لتوماس أديسون - مخترع المصباح الكهربائي - بعد أن أجرى عشرة آلاف تجربة لينجح في الأخيرة منها في صنع المصباح الكهربائي أما مللت من كثرة التجارب الفاشلة؟! قال: لو لم أخطئ 9999 مرة لما نجحتُ في المرة العشرة آلاف ..

قال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في الحث على عدم العجلة في تحصيل العلم: من رام العلم جملة فاته جملة، ولكن خذه مع الليالي والأيام .. انظر "البداية والنهاية"..

لو أننا اقتصرنا على "الإحياء" للغزالي أو مختصره لابن الجوزي أو مختصر مختصره للمقدسي .. أو "الترغيب والترهيب" للمنذري .. أو "رياض الصالحين" للنووي .. أو "حياة الصحابة" للكاندهلوي .. أو على ذلك السفر الضخم المطبوع في سبع مجلدات فاخرة :"نضرة النعيم في
أخلاق الرسول الكريم" لوجد فيه الناظر ما يجعل نفسه تسمو إلى آفاق روحانية وعالم أشبه مدينة الفارابي الفاضلة!
ولنجح الناس بجميع شرائحهم في جميع الميادين .. لا أعني هذه الكتب بالذات فتعيينها لا يدل على تعينها والمكتبة العربية طافحة بآلاف من أشباهها ..

رابعا: من آفات هذه الموجة .. تجلي مظاهر الانهزامية في عالمنا الإسلامي حتى في مجال العلوم ا
لإنسانية .. وكأننا منها خواء .. قام الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله وعفا عنه – بكتابة مستخرج على "دع القلق وابدأ الحياة!" للشيخ ديل كارنيجي وعنون له بـ"جدد حياتك" تتبع فيه الغزالي النقاط والأفكار التي وضعها كارنيجي ودلل لها بأدلة من الكتاب
والسنة.. أليس هذا انقلاب واضح في التلقي؟!!

يستحيل أن نقول هذه الأمور نستفيد منها فقط في جانب إداري أو تنظيمي أو دعوي ونضمن تماما أن لا تؤثر في ع
واطفنا .. لابد ولا مفر أن نكن ولو شيئا يسيرا من من التقدير والإجلال والإشادة بأهلها .. يكذب بعض العقلاء والمستنيرين حينما يؤكدون أننا نأخذ علومهم الإنسانية ونطبقها لننجح في الحياة أما الدين والثوابت فلا مساومة عليها..!! الكفار حطب النار رضي من رضي وسخط من سخط .. فهل نجعلهم روادا لتهذيب النفوس وأئمة للنجاح في الحياة
الدنيا؟!! .. لا ولا كرامة ..

ليت شعري كيف يكون مصدر استمدادنا للنجاح في الحياة الدنيا من كوفيي وكارنيجي ومصدر استمدادنا للنجاح في الحياة
الأخروية من البخاري ومسلم!!..

كيف يختمر هذا في هامش الشعور ونحن دائما نسمع ونقرأ أقوال السلف ومنها كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن في الدنيا
جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"..

في القرون الثلاثة الأخيرة عندما انتشرت الطرق الصوفية انتشار النار في الهشيم كان الرجل يُسأل عن عقيدته ومذهبه
(الفقهي) وطريقته ..

كأن الطريقة أمر آخر نسيه السلف يقود إلى الجنة أو يهذب النفس .. أخشى أن يأتي يوم يُسأل الرجل عن عقيدته ومذهبه
والأسلوب الذي يتبعه لينجح في الحياة الدنيا (الدنيا)..!!

خامسا وأخيرا: من باب النصيحة: على المشايخ التنبه والتنبيه على هذا الخطأ الجوهري الجديد .. وإلا فليس بمستغرب أن ن
فاجأ في قادم الأيام بردود فعل غير مستحبة .. وإن لم يُنبه إلى هذا الأمر مبكرا لتم تدريس كتاب "العادات السبع" أو
"البرمجة اللغوية العصبية" في الدورات العلمية الصيفية مع علم المصطلح وعلم الأصول وعلم القراءات وعلم النحو ..

ختاما أقول .. لا تغتر بجماعة من الأغرار رموا كل ما ألفه المؤلفون وكتبه المفكرون وخطه العلماء العاملون في مختلف القرون
وراءهم ظهريا .. واستقدموا شيئا رأوه حلوا عذبا جميلا أخاذا كتبه كارنيجي وكوفيي وتشومسكي وغيرهم .. وجعلوه أصلا وإماما ونبراسا ومنطلقا لا تصلح الحياة إلا به .. ونسوا كل ما كتبه أجدادنا المسلمون عجمهم وعربهم .. وقد حضرت إحدى هذه الدورات مرة فقصّ علينا الحكواتي (المدرب) عددا من الحكايات لا تحصى كثرة .. وكل الأفكار التي فيها .. تحمل الأذى .. حسن الإنصات .. طول النفس .. الاعتماد على النفس .. تعلم الابتسام .. التعاون .. استخراج المواهب والنواحي الإيجابية .. كلها ورب الكعبة مبثوثة ومطروقة ومسطرة عند أكثر الأمم لا سيما أمة الإسلام التي تزيد على الكفار بمزايا في تزكية النفوس وإصلاح القلوب والتعاون على البر والتقوى الكثير الكثير .. لكن قومي كما قال
الطنطاوي رحمه الله:
كثيرا ما كنت أناقش أناسا من المجددين فآتيهم بالكلمة الخالدة لأحد علماء الشرق، فيقلبون شفاههم، ويجعدون جباههم،
ويعرضون عنها ازدراء لها، فأجيئهم بالكلمة مثلها وفي معناها لعالم إفرنجي، فيسمعون ويخضعون، ويهزون رؤوسهم إكبارا لها، وإعجابا بها .. وأنقل القاعدة الشرعية عن فقيه من فقهائنا فيأبونها، فإن نقلت هذه القاعدة عن فقيه إفرنجي
قبلوها .. ويحقرون العادة من عاداتنا، فإن علموا أن شعبا من شعوب أوربا الراقية، أو أمريكا قد اعتادها عظموها .. كأن الخير لا يكون خيرا لذاته بل (للماركة الإفرنجية) عليه والشر لا يكون شرا لذاته بل للطابع الشرقي عليه ..ا.هـ.
حتى أن العوام يعرفون أسرار النجاح بفلسفتهم وطريقتهم الخاصة .. ولا داعي للكذب عليهم وتهويل الأمور باختلاق
مصطلحات رنانة وأكاذيب فتانة .. وجعل البرمجة اللغوية العصبية وكأنها إكسير الحياة ونهاية التاريخ ..

العوام لديهم من الحكمة والتجارب والرصيد الكبير من الأمثال الشعبية أوسع وأكمل من القصّاص والحكواتية الجدد ..

الاثنين، 19 يوليو 2010

تأبين دخيل الله ..

ما لي أكتمُ حبا قد برى جسدي *** وتدّعي حب سيف الدولة الأممُ ..

اليوم .. تذكرتُ ذلك الشيخ الصالح .. حياته ولياليه .. كلامه الحسن .. وعظه الرقيق .. إيمانه العميق .. أخلاقه العظيمة .. حياته بكل تفاصيلها .. حياته التي نذرها لله .. ممتثلا قول الخليل عليه السلام: {قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين} .. رافقته عمرا مديدا .. عرفتهُ عن كثب .. وخبرته من قريب .. لكن الليلة .. هاجني الشوق .. وخذلني التجلد .. وفضحتني العبرات .. ترآى لي طيفه من مكان بعيد .. وهو في آخر أيام دنياه .. باسم الثغر .. منشرح الصدر .. قد علا محياه الشيب والتجاعيد والمرض .. عليه إشراقة المنتصر في معركة الحياة .. وهو في ثبات وهدوء وصدق وإيمان ..

تمرّ بك الأبطالُ كلمى هزيمةً *** ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسمُ ..

شيخي الصالح هذا .. كان من أبناء الرعيل الأول .. قدم جدة في ثلاثينيات القرن الماضي .. عمل وتسبّب .. جدّ واجتهد .. وتزوّج .. أول عمل تعناه "الحجر والطين" أو بناء البيوت والدور .. ثم درس بالمدارس النظامية .. وتخرّج منها .. والتحق بوظيفة في "الترنك" بوزارة البرق والبريد والهاتف .. براتب مئتي ريالا في الشهر ..

كان من أساتذته في مدرسة الفلاح الابتدائية: حمزة سعداوي وسراج سمكري وطلحة الشنقيطي .. لقد كان وفيا لمعلميه إلى آخر عمره .. يذكرهم بأطيب الذكر .. وينعتهم بأحسن الحديث .. وقد أنشدني مرة شيئا مما روّاه إياه أستاذه سمكري .. فكان منه:
منا انجلى نور الهدى من مشرقٍ ومغربِ ..
ها نحن في عهد الصِّبا ..
فكلما هبَّ الصَّبا ..
هام الفؤاد وصَبا ..
نسعى لنيل المأرب ..
جبريل فينا نزلا ..
يدعو لخير نبي ..

أنشدني أيضا أبياتا لعلي بن أبي طالب – وقد حفظتها منه -:
الناسُ من جهة التمثال أكفاءُ *** أبوهمُ آدمُ والأم حوّاءُ
فإن يكن لهم في أصلهم شرفٌ *** يفاخرون به فالطينُ والماءُ
ما الفضلُ إلا لأهل العلم إنهمُ *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئ ما كان يحسنهُ *** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

كان يأخذ القلم قبل أن يشتد عليه الباركنسون – مرضٌ يسبب رعشة لا إرادية – فيكتب بخطه الجميل بالرقعة:
الخط يبقى زمانا بعد كاتبهِ *** وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا ..
رحم الله تلك الأكف الطاهرة .. لقد كانت حياته كلها دعوة للإخلاص .. إخلاص العبادة لله .. أفنى ثلث عمره الأخير .. يدعو إلى الله .. جاب أقطار الدنيا وأطرافها .. زاده التقوى واليسير من المتاع .. أو كما يصفه: "النية والبطّانية" .. زار الكويت والبحرين وعمّان واليمن والمغرب والسودان وجنوب إفريقية وإندونيسية والباكستان والصين وأستراليا ولندن وباريس وبلجيكا وإسبانيا .. مبلغا للدين وداعيا لرب العالمين .. لا يريد حمدا ولا مدحا ولا جزاء ولا شكورا .. بل فهم رسالته في الدنيا وأداها حتى أتاه اليقين ..

لطالما سمعته يردّد في أحاديثه ومواعظه قصة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه التي أخرجها الجماعة .. وحديثه فيها من أشهر الأحاديث الدالة على أركان الإسلام .. وشاهد لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "بني الإسلام على خمس" .. وفي حديث ضمام بن ثعلبة تسلسل عقلاني منطقي لأركان الإسلام .. كان يسرد حديث ضمام بطوله ..

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في أصحابه، وكان ضمام رجلا جَلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال أيكم بن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا بن عبد المطلب، قال: محمد؟ قال: نعم، فقال: بن عبد المطلب إنى سائلك ومغلّظ في المسألة فلا تجدنّ في نفسك، قال لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك، قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك إلينا رسولا؟ فقال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم، قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، قال: ثم انصرف راجعا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى: إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة ...

ثم كان يكمل الحديث في قصة ضمام مع قومه .. وفيه: فأتى إلى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص والجذام! اتق الجنون! قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز و جل قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، إنى قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال: يقول بن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ..

رضي الله عن ضمام .. ورحم الله دخيل الله ..

ظل محافظا على الفرائض الخمس .. داعيا لها وحاضا عليها طول حياته .. لم يتخلف عنها أبدا .. عرفته الناس .. في "كيلو ثلاثة" وحي الجامعة و"كيلو سبعة" إلى حي الربوة أخيرا ..

أعجب ما في حياته .. قيام الليل وتلاوة القرآن .. مذ عرفته ودأبهُ قيام الليل .. ما تركه ليلة .. بل قيام الليل عنده قطعة من يومه .. حتى بعدما احدودب ظهره .. ورقّ عظمه .. وثقلت حركته .. ظل ملازما له .. كان لا يستوي قاعدا .. إلا أنه يتطهر ويتوضأ في وقت طويل .. ثم يسأل من حوله أن يضعه على كرسيه المتحرك ويوجهه قبل الكعبة .. فيشرع في صلاته .. ثم يرتخي رأسه .. ويظل يجاهد نفسه طوال الليل .. يمكث ساعة ربما لا يجاوز فيها الفاتحة .. لضعفه وونيه .. واشتداد الباركنسون عليه .. يذكرني حاله دائما بقول حسّان في عثمان بن عفان رضي الله عنهما:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود بهِ *** يقطِّع الليل تسبيحا وقرآنا ..

أعجب من ذلك .. أنه لم يؤذن المؤذن في مسجد الحي إلا وهو على عتبات باب المسجد .. يدفعه أحد بنيه أو خادمه بكرسيه المتحرك .. الذي غدا رمزا ككرسي أحمد ياسين .. رحمه الله .. رغم كبره ومرضه .. إلا أنه كان آية في حضور الفريضة .. حاثا وحاضا على الصلاة بفعله ..
يفرحُ أهل المسجد حين يرونه قادما لموضعه من المسجد .. يأتيه أناسٌ يعرفهم وأناسٌ لا يعرفهم فيسلمون عليه .. كانوا يتعاهدونه بالسلام والتقبيل .. حبا لله وفي الله .. لقد أحبته الناس وأهل الحي وكل من رآه .. {وألقيت عليك محبة مني} .. كان هناك شيخٌ مسن له كرسي يقتعده في ناحية المسجد .. كان أكرمه الله يعد السلام على دخيل الله سنة من سنن الصلاة لا تكمل إلا بها .. من شدة محبته له ..

وفي طريقه للمسجد كان يأمر خادمه بصرف ريالات مفرّقة .. ليتصدق على السؤّال والمحاويج في طريقه .. لا ينسى ذلك أبدا .. رغم تواضع راتبه التقاعدي .. أذكر أنه بعد وفاته بأيام قلائل .. جاءت حجة سوداء تبيع الحلوى والفصفص .. كانت دائما تجلس أمام مدرسة ابتدائية على طريقه للمسجد .. جاءت تسأل عنه .. ثم ارتاعت حين علمت بوفاته فعزتنا .. ودعت له بخير ..

حين يحلّ وقت كراء داره القديمة في رمضان من كل عام .. يأتيه المال وهو قعيد في كرسيه أو طريحٌ في فراشه .. فيأمر من حوله بتفريقه بين فلان وفلان .. ذاهلا عن نفسه ودنياه فانيا في معاده وأخراه ..

ولو لم تكن في نفسه غير كفّه  ***  لجاد بها فليتّق الله سائله ..

كان محبا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. دائم السماع لكتب الحديث والسير والفقه والتفسير .. ما جالسه أحد من محبه وذويه إلا أومأ إليه بكرسي الكتب في جواره ليقرأ له شيئا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم .. ومما قرأنا سويا .. سيرة ابن هشام .. مرات .. وقطعا من تفسير ابن كثير .. وأجزاءا من تفسير أبي المظفر السمعاني .. ورياض الصالحين .. ومختصر الزبيدي للبخاري .. وفقه السنة .. في كتب كثيرة .. أجزاء ومفردة .. كان لا يشبع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا ..
ترك اللذات فهمّته *** علمٌ يرويه ويسندهُ ..

أما تلاوة القرآن .. فعند عودته من صلاة الفجر .. يتناول شيئا من الخبز الأسمر مثرودا بالحليب والحبة السوداء .. ليسهل بلعه .. ثم يأمر الغلام .. أن يجعل عن يمينه مسندا وعن شماله مسندا .. وكرسي المصحف أمام عينيه يضع عليه كتاب الله .. فيقرأ منه .. كان يجهد في القراءة بسبب المرض .. بعد أن كان إمام مسجد أيام شبابه وكهولته ينهل من كتاب الله ويرتله .. كان آخر حياته كأنما ينظر في صفحة واحدة ثم يميل على أحد جنبيه فيغفو .. ثم يفيق ثم ينظر في المصحف وهكذا حتى تمضى ساعته المخصصة للقراءة فيساعده الخادم للاستلقاء على طرّاحته .. فيأمره أن يدير جهاز تسجيل قريب منه على سورة البقرة بصوت عبد الودود حنيف أو محمد الدبيخي .. التي قرئت عنده في سنياته الأخيرة مئات المرات ..

لقد أقعده المرض وجعله طريح الفراش عامة وقته في آخر عشر سنين من حياته .. ومراتٍ يجد خفة فيقف متوكئا على أحد ويمشي متهاديا لمسافة قصيرة .. ظل صابرا محتسبا .. يذكرني حاله بحال الصحابي الجليل عمران بن حصين رضي الله عنه .. الذي أمضى ثلاثين سنة على السرير .. أقعده المرض ..

كان لا همّ له إلا الدِّين .. وإدخال الدين في حياة الناس .. يزوره أحبابه وأصحابه من كل مكان .. ومن شتى أصقاع الدنيا .. تجد بينهم الحب والوئام والوفاء المنقطع النظير .. ما لا تقرأه في كتاب أو تجده فوق تراب .. يلتفون حول طرّاحته .. يحادثونه ويذكرونه بجهوده ثم يمازحونه ويضاحكونه وينصرفون ..

مرة جاءه رجلٌ عليه سحنة الخواجات .. قادم من أستراليا .. كان يسأل عنه ويتشوق للقياه .. فلما لقيه كان بينهما تحاضن عجيب .. فأخبرني أصدقاؤه أنه كان سببا في دخوله في الإسلام في إحدى زوراته لأستراليا .. وأن هذا الرجل أسلمت زوجه وولده بعدُ ..

أخبرني أصدقاؤه برحلة له إلى بلاد الصين في أواخر الثمانينيات الميلادية .. أنه كان في منطقة للمسلمين يتحدث إلى رجلين في سوق المدينة .. يقول الراوي: فاجتمع الناس حوله .. متعجّبين من هيئته وثيابه ولحيته .. فكثر الناس .. وازدحم السوق .. واصطفت الصفوف .. حتى إن الصينيين ركبوا فوق أكتاف بعض الاثنين والثلاثة ليروه .. وهو ما قصد محاضرة عامة ولا خطبة عصماء ..


ومن طريف ما اتفق له .. أنه كان في جولة دعوية ناحية فرنسا وإسبانيا .. معه اثنان من رفقائه .. كلهم شيوخ مسنون .. معتوق وعبد العزيز ودخيل الله .. فدخلوا إسبانيا معهم سائقهم ومترجمهم .. فمر بهم على الجامع الكبير بقرطبة .. الذي أحاله الأسبان إلى متحف .. فدخلوه .. متأسفين محزونين على ضياعه .. كان الشيخ معتوق حديد الطبع شديد العاطفة .. فأدركته غيرة على ضياع المسجد فكبر وصلى ركعتين .. فاقترب منه رجل الأمن في الموقع ينبهه أن المتحف سيغلق أبوابه وعليه الخروج .. والشيخ معتوق مشغول بصلاته لا يجيب .. ورجل الأمن يُعيد عليه وهو لا يرد .. فتدخل عبد العزيز مخاطبا معتوق وهو في صلاته: يا معتوق! خلينا لما نرد فلسطين نتفاهم على هذي ..

وزاره مرة الشيخ "نعمة الله التركي" .. وهو من طلائع المسلمين في اليابان .. وقدماء الدعاة في طوكيو .. طرق باب الدار والشيخ دخيل قعيد في كرسيه فآذناه بالدخول ولمّا نره .. فأتانا صوته عاليا جهْوريا:"سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" .. فظهر لنا شيخٌ مهيبٌ أبيض البشرة واللحية والثياب .. كأنما هو ملكٌ من ملائكة الله .. هبط إلينا من الملأ الأعلى ..

جاءه زائرا ملاطفا أحدُ قراباته يوما .. فابتدره سائلا: "أما تريد الجواز يا عم دخيل؟!" - يريد الزواج بلهجة العامة - .. فأجابه وعيناه تجولان في سقف الحُجرة: اللهم ارزقنا الجواز على الصراط! ..

كان طول حياته يتمثل .. بلغوا عني ولو آية .. يتسامح وسيماه التسامح .. إلا في الدين فلا يقبل أي مساومة .. كان من أشد ما يكرهه التلفزيون .. كان يعده أساس الملهيات والمشغلات .. فقد كان عنده الوقت هو الحياة .. لا تراه فارغا طول عمره .. إلا في شغل أو مصلحة أو ذكر أو عبادة ..

كان واصلا لرحمه .. في جدة وخارج جدة .. محسنا لجيرانه .. ما ترك حيا وانتقل منه لآخر .. إلا واصله جيرانه الأقدمون .. يسألون عنه ويسأل عنهم .. كأنما يبذر بذرة .. فينميها الله .. فتنبت وتكبر .. {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} ..

هذه نثار من أخبار شيخي .. اللهم اغفر لدخيل الله .. وارفع درجته في المهديين .. واخلفه في عقبه في الغابرين .. واغفر لنا وله يا رب العالمين .. وافسح له في قبره ونور له فيه ..

يا رُبَّ حي رخام القلب مسكنهُ *** وربَّ ميتٍ على أقدامه انتصبا ..

لقد كان الشيخ دخيل الله والدي .. عليه رحمة الله .. توفي في ثالث أيام شوال من عام 1429 ..

الجمعة، 16 يوليو 2010

الهجرة إلى المدينة الفاضلة ..

أقيموا بني أمي صدور مطيكم *** فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ

فقد حُمّت الحاجات والليل مقمرٌ *** وشُدت لطيّات مطايا وأرحلُ

معشر "الوسطيين": احزبوا حقائبكم .. وشدوا ركائبكم .. واحتملوا أمتعتكم وأزوادكم .. !

فموسم الهجرة إلى "المدينة الفاضلة" قد اشتد ..

وحداة الركب تهيجوا للرحيل إلى "العالم الملائكي" ..

قد يمموا أشطارهم إلى حيث "أرض الميعاد" الخالدة ..

وتركـــــــــــــــــــونا ..

أصادف أحيانا عند تجوالي في أروقة "الوسطية" وردهاتها المكتظة طروحات غارقة في المثالية .. سابحة في الخيال .. يتزعم هذا المطروح ثلة الإصلاحيين من أعمدة "الوسطية" ..

مطالبهم وآمالهم وآلامهم: نشدان الحياة الدستورية .. التعددية الحزبية .. تفعيل مؤوسسات المجتمع المدني .. تدشين المشروع الحضاري .. التعايش السلمي .. إصلاح الفساد الإداري .. تخفيف البطالة .. الإعلام المفتوح .. إيجاد بدائل إقتصادية .. في رزنامة طويلة تزيد وتنقص من إصلاحي لآخر ..

رزنامة أشبه "برنامج إنتخابي" في "حملة إنتخابية" يتسابق فيها "ناخبون" ..

باختصار: انعقدت رؤاهم على أن الوضع الصحي المنشود أن تصير بلدتنا دولة أوربية على منهج أهل السنة والجماعة..

الجميل أنهم عند الوصول إلى مواطن النزاع ومضايق الجدل يصيحون منادين بالعود إلى منهج السلف .. والقبيح أنك إذا عدت معهم بل وقبلهم إلى منهج السلف .. قاموا بخدعتهم المكرورة فتباكوا وولولوا كالمرأة - "تبكي وهي ظالمة، تشهد وهي غائبة" - وصرخوا فينا: حتى الآن لم تفرقوا بين منهج السلف كما عليه السلف وبين منهج السلف الذي في أذهانكم ..! هيّا حلها! ..


إذا وصلنا إلى هذا الحد تعقدت القضية واشتبكت أطرافها .. وصار الحوار كحوار العمي مع الطرشان ..

لا أدري لم لا نستسلم كلنا لمنهج أهل السنة والجماعة فهما وممارسة ..

ولا أدري لم لا يتركون عقولهم عند الباب ويريحونها قليلا ويدخلون الباب سجدا ..

ما الداعي لإعمال العقل لإبتداع طريقة متخيلة راقية لإصلاح المجتمع؟! ..

ألا يسعنا منهج أهل السنة والجماعة بدلا من البرامج الانتخابية والأسطوانات المشروخة؟! ..

ألا يمكن اعتبار منهج أهل السنة والجماعة برنامجا انتخابيا جاهزا؟! ..

قال الدكتور محمد عباس: "خطيئتنا الكبرى أننا - خاصة بمفهوم الحضارة الغربية - نعطى العقل أكثر مما يستحق، وليس العقل إلا بعضا من الإنسان قدراته محدودة ومحكومة بوسائل الجسد فى تحصيل المعارف، لقد خلقنا الله ثم أعطانا من العقل ما نحتاج فعلا إليه، ما ندرك به النسبى لا المطلق، الناقص لا الكامل، والعقل يشبه حقيبة جراح تحوى من الآلات ما يمكنه من إجراء عمليات محددة، لا يمكنه أداء سواها، وعدم استعماله فيما خلق من أجله حماقة واستعماله فيما لم يخلق من أجله جنون، تماما كما أن الله قد خلق لنا قدمين نسير عليهما، فإن من يتوقف عن استعمالهما أحمق ستدفع حماقته بقدميه إلى الضمور، أما من يحاول استعمالهما للسير بهما على السحاب فهو مجنون ثم أنه لا محالة هالك، الله فاعل، والعقل البشرى محدود، فإذا كنا نؤمن بكل ذلك فلماذا نستبدل المنهج الأرضى بالمنهج الإلهى ؟.. وكيف بعد ذلك ننتظر الفلاح والنجاح ؟ " ..

هل الإسلام منهج حياة عندهم؟ أم هو منهج نظري مجرد يحتاج لرؤاهم الباهرة وعقولهم الفياضة حتى يطبق على الأرض؟! ..

هل الإسلام عندهم طروحة أم هو منهج حرفي ليس المراد إلا تطبيقه؟! ..

لله در النصيين!..

فعلا لو سكت من لا يدري لقل الخلاف ..

إن قيل: دخول البرلمانات ليس بجائز .. الديموقراطية تعارض الإسلام .. وإن سأل سائل: ما رأيكم في التعايش السلمي مع الإباحيين .. مع عبدة الشيطان .. مع الملاحدة والزنادقة - إن لم تلغ بعد من قاموسهم -؟!! ..

رجّونا وامتحنونا: حرام!.. حرام!!.. كل شيء حرام !!.. بل والنسخة الأحدث منهم تصيح: طابو !.. طابو !!..

قال الدكتور محيي الدين عميمور: "ومنذ سنوات استوردنا من بين ما استوردناه من البضاعة المغشوشة تعبير طابو؛ Tabou الذي أعجب بعض الغلمان بغنته فراحوا يحطمون كل ما أوحي لهم من هناك بأنه طابو؛ سواء أكانت رموز دولة أو أمجاد أمة أو معالم وطنية وكانت بداية المحنة الدموية في الجزائر عندما تزايدت الاستهانة بالثوابت، التي زعم الخواجات؛ أنها ذبحت الجزائر! والمقصود بالثوابت .. الولاء للوطن والتشبث بالإسلام والتمسك بالعربية." ..

قال الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..

الإمام مالك يعني: تفعيل مؤوسسات المجتمع المدني .. وتدشين المشروع الحضاري!! ..

أو ربما أنه يعني شيئا آخر .. أليس كذلك؟! ..

هنا استفسار: من أشنف للأذن وأوقع في النفس: الإمام أحمد والسفيانان ويعقوب بن شيبة وعبد الرحمن بن مهدي والليث والأوزاعي وابن المديني ووكيع وابن المبارك أم ..

محمد أركون والعروي وفهمي هويدي والترابي ونصر أبو زيد ومحمد جابر الأنصاري؟! ..

هل الطبقتان متماثلتان؟! ..

هل الأخيرة أفهم لواقع العصر من الطبقة البائدة ؟! ..

هل تقصير الثوب وإعفاء اللحية وترك الشماغ بلا عقال صفة كاشفة للانغلاق والأحادية والإقصاء؟! ..

هل لبس البذلة الإفرنجية وحلق اللحية وارتداء ربطة العنق ضرورة عصرية لا يمكن تقديم الإسلام بدونها؟! ..

هب أن المسلمين بزوا أمم الغرب والشرق في الصناعات التقنية ومختبرات النانو والقنابل النيتروجينية .. وركعناهم كما هم مركعونا اليوم .. هل ستتغير الإجابات أم تبقى؟! ..

هل نحن نتبع قاعدة مطردة أم قاعدة مطاطة؟! ..

هل "نحن" الذين نجر العربة إلى الوراء أم "الآخر" الذي يجر العربة إلى الوراء؟! ..

لقد تعايش الناخبون - أصحاب البرامج الانتخابية أعلاه - مع "الآخر" إلا "آخر" وحيد مسكين منبوذ لا يمكن أن يتعايش معه أحد .. لأنه هو الوحيد الأحادي .. الإقصائي .. المتطرف .. وسيظل أحاديا .. إقصائيا .. متطرفا حتى يتبع ملة أهل الصليب واليهود والزنادقة والبوذيين .. وملل الكفر كلها .. عندها سيُسقط عنه الناخبون "صك الحرمان" ويمنحونه "صك الغفران" ..

الخميس، 15 يوليو 2010

علمُ الدِّهان والملَق ..

اصطدتُ هذا التعبير في ثنايا مقالة لمصطفى لطفي المنفلوطي .. كان وصفا عابرا غير مقصود في الموضوع ..
لكن .. لم تزل رنته وجرسه يترددان في دماغي من يومذاك ..

لا أدري لمَ هرول الناس وتهافتوا خلف دورات البرمجة اللغوية العصبية NLP .. ودورات فن التعامل .. ودورات كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في النفوس .. ودورات فنون الإدارة والقيادة .. وجلسات ممارسة "العصف الذهني" .. ونشطوا فيها .. وبلغوا فيها الغاية .. حتى نسوا أو تناسوا هذا العلم الجليل؟! ..

بل في المكتبات .. تجد الأرفف ملأى بعشرات الكتب مرتبة بنظام عجيب .. تتحدث كلها عن تطوير الذات .. والنجاح الوظيفي! .. لكنك لن تجد من التفت أو صنف في الدهان والملق أبدا!! ..

لذا إخوتي! .. أحببت نبش هذا العلم واستخراجه من مكامنه .. لعلي أضيف بذلك علما جديدا تفيد منه البشرية .. وتنعم به الإنسانية ..

تماما كما اكتشف الخليل بن أحمد علم العَروض .. مع أن العرب في جاهليتها وإسلامها تنظم الشعر .. وتقوله على السليقة .. إلا أن الخليل أول من استنبط قواعده وكتب أصوله ..

ويقال بأن "العَروض" العلم الوحيد الذي اكتشفه وكتب أصوله وقواعده وعلله وزحافاته رجل واحد! لم يشركه فيه أحد! .. باستثناء "المتدارك" الذي تداركه "الأخفش" ..

كذلك "الدهان والملق"! ..

دائما ما أرى كثيرا من الناجحين في الدهان والملق في الحياة العملية .. وُفقوا فيهما توفيقا كبيرا .. وحذقوا حذقا عظيما .. لكم أحسدهم! .. ولكم منيتُ نفسي أن أجيد مثل ما أجادوا فأفوز مثل ما فازوا! ..

اليوم .. قررتُ الاستعانة بأصول "البحث العلمي" لاستخراج موضوع هذا العلم وثمرته وحدّه .. لما زعم بعض النظّامين أن لكل علم عشرة مبادئ .. جمعها في ذين البيتين:

إن مبادئ كل علم عشرة *** الحد والموضوع ثم الثمرة

ونسبته وفضله والواضع*** الاسم الاستمداد حكم الشارع ..

ولا أود أن يستدرك علي أحد فيه شيئا إلا أن يكون كالأخفش! ..

الاسم: علم الدِّهان والملَق ..

الواضع: Khalid Alharbi ..

الحد: هو ملكة فطرية أو مكتسبة، تميل أوتوماتيكيا إلى رأي الشخص الأقوى أو الأغنى، تقتل في قلب صاحبها الاعتراض والإبداع والإصلاح؛ والانفعال عموما، وترسم على شفتي صاحبها ابتسامة لا تفارقهما، فهما دائمتا الانفراج، كأنما قد انحلت عضلاتهما فلا تنطبقان.

قيل أن الدهان والملق بمعنى .. وقيل بينهما عموم وخصوص وجهي .. فالله أعلم ..

الثمرة: الدراهم والدنانير، والتقديم، والترقية، والاصطفاء ..

وللفائدة فهو علم لا تخسر فيه شيئا أبدا .. إلا شرفك ومبادئك .. أما حديث معاذ مرفوعا: "ليس من خلق المؤمن الملق" فإنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة .. ويدفعه أيضا أن التملق قد يكون عبادة .. لأنه من أسباب الكسب والرزق .. وقد قال شوقي وأجاد:

سعي الفتى في عيشه عبادة **** وقائدٌ يهديه للسعادة

لأن بالسعي يقوم الكونُ **** والله للساعين نعم العونُ

فماء الوجه رخيص مقابل قرص الخبز .. وقتل الاعتراض والإبداع ليس بشيء أمام حفنات الدراهم والدنانير .. كما أن تبسمك في وجه أخيك صدقة ..!

لكن .. ما يؤسفني قوله .. أن هذا العلم آلة ومَلَكة لا تتهيئ لكل أحد، مهما علت همته وسمت نفسه في تحصيله .. وأن هناك ما يسمى بالاستعداد الفطري أو قبول المحل .. وهذا هو جوهر وأساس التمكن في هذا العلم ..

فإن كنت لا تجد الاستعداد الفطري فلا تجهد نفسك ولا تكرث فؤادك! .. وافعل كما فعل الأصمعي حين درس العَروض زمانا طويلا فلم يفلح! .. فسأله أستاذه يوما أن يقطّع هذا البيت:

إذا لم تستطع شيئا فدعه **** وجاوزه إلى ما تستطيعُ ..

ففهمها الأصمعي وترك المجلس وانطلق يطلب العربية .. حتى صار من أئمتها ..

مقدمة كتابي: "الأربعين في الحب" ..


المقدمة:

الحمدُ لله الغفور الودود، المتفضِّل المعبود، مؤلِّف القلوب، وجامع الدروب، خلق من كل شيءٍ زوجين، وأعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، خلق حوّاء سكناً لآدم، وعطفَ بآدم على حوّاء، وجعل بينهما مودة ورحمة، وتكاملا ولُحمة، فلله الحمد والمنة، وله الشكر والنعمة، على عطائه الممدود، وإحسانه المعهود، إنّ ربي رحيمٌ ودود.

والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وخليله المرتضى، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والبشير النذير، والسراج المنير، القائل في الأخبار الصحاح: لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.

وبعد .. فهذه أربعون حديثا نبويا، كلها في "الحب"، مصفوفة بانتظام، مرصوفة بإحكام، حُسنها في الاختيار، وسِرُّها في الترتيب، وقوتُها في العزو والتخريج، قلادةٌ من أربعين درَّة، منظرها مُعجِب، ومخبرها مُغني، زيّنتها الحواشي، ولوّنتها النكات، ليعلمَ الناسُ أنّ في ديننا فسحة، وأن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، وأنه سكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان.

ليس من العدل والرَّحمة، ولا العقل والحِكمة، أن تُكتم الكلمات، وتُكبت الرغبات، ويُتجاهل أجلى وأحلى مظاهر الحياة، وما دارت الأفلاك، ولا تعاقب الملوان، ولا التفّ الغُصن على الغُصن في الغابة النائية، ولا عطفَ الظبي على الظبية في الكِناس البعيد، ولا حنى الجبل على الرابية الوادعة، إلا لأجل الحب.

ولولا الحب؛ لما سجَعت الأطيار، ولا ضحِكت الأزهار، ولما بكى الغمام لجدب الأرض، ولما عانقت الشمسُ بواكير الفجر، ولا كانت الحياة.

لقد استوعبَ الإسلامُ جميع مظاهر الحياة، لم يغفل منها شيئا، أمر ونهى، ندَب وكرِه، وسكت، فضيّق أقوامٌ ما لهم فيه مندوحة، وأنكروا ما هو معلومٌ بالضرورة، فكانت "الأربعين في الحُبّ"، تنبيها للقاصي والداني، والساخط والراضي، أنّ الحب؛ ما لم يقد للمحظور، أو يخالف المأمور، فليس نُكرا من القول، ولا هَجرا في الحديث.

جمعتُ هذه الأحاديث من الصِّحاح والمساند، والسُّنن والمعاجم، مخرّجة، محققة أحيانا، ومقطعة نادرا، جعلتها أربعين استنانا بمن أفرد الأربعين حديثا في بابٍ واحد، كـ"الأربعين في الأخلاق" للبيهقي، و"الأربعين في الجهاد" لابن عساكر، و"الأربعين في التوحيد" للهرَوي، و"الأربعين في النكاح" للبَكري، و"الأربعين في المزاح" لطاشكبري زاده، و"الأربعين في الطب" للبرزالي.

ثم جاءت "الأربعين في الحُبّ"، جمعتُها وأذعتُها، إجماما للنفس، واعتبارا للفطرة، ورحمة للرجال، ورفقا بالقوارير.

ولقد سبق في إفراد هذا الباب في مصنفٍ واحد جماعة، كـ"اعتلال القلوب" للخرائطي، و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"مصارع العشّاق" للسرّاج، و"روضة المحبين" لابن القيم.

بل في كتب السنة إشارةٌ لهذا الباب، فقد بوّب النسائي في "الصغرى": "باب حُب النساء" والهيثمي في "المجمع": "بابٌ في محبة النساء".

وأقول ختاما، إنّ هذا الكتاب ليس دعايةً للحب، فـ"الحب من الله، والفَرْك من الشيطان" كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، لكن؛ قد يُستنبط عند تمام قراءة الأربعين في الحب ضبطٌ لأطره، ورسمٌ لحدِّه، ووجهٌ للتعامل عند وقوعه، وتصويبٌ للرأي عند معالجته.

والله أعلى وأعلم، ونسبة العلم إليه أسلم وأحكم، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأت فمني والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، والصلاة والسلام على سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

الولـد خـوّاف!! ..


العنوان أعلاه .. نتيجة طبيعية لممارسات الأب في طفله الصغير .. ومغامرات المربي في تلميذه الغرير ..

التخويف من كل شيء .. والتوقي عند كل أمر .. وخلق جو من الرهاب والتهويل غير المبرر من الناس والأشياء .. مما يحدِث اهتزازا وضعفا جليا في شخصية الولد .. وينتج بعد ذلك شابا هلعا متلعثما .. هيابا من كل أحد .. مستحكم الخوف .. مفزوع الفؤاد .. بالع الريق .. متلفتا دوما لليمين وللشمال .. لا يحسن الكلام ولا حتىالسكوت! .. بل حاله الوجوم .. وفرق بين السكوت والوجوم! .. فالسكوت قد يشف عن اطمئنان نفس وثبات جنان .. أما الوجوم فلا يشف إلا عن خلل واضطراب في الداخل .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

ولا يتخلص ويبرأ من آثار هذه الفوبيا والرهاب الاجتماعي ويرجع سويا كتربه .. حتى يقضي سنوات طويلة بين منازعة وتردد وتوجس .. إن كُتب له خير! ..

ستيفن كوفيي يرى في عاداته السبع أن أول أسباب النجاح: "1. كن مبادرا!" لكن! .. هيهات! .. أي مبادرة نريد من ذلك المسكين .. الخائف من ظله؟! .. وقد هُدمت شخصيته .. وسقطت همته ..!

نفكر كيف نوصله إلى النجاح .. ويفكر هو كيف ينجو من حالة الهلع والفشل التي يعيشها .. وفاقد الشيء لا يعطيه .. وإنك لن تجني من الشوك العنب! ..

إن من أهم شرائط الإبداع وأصول النجاح .. تحقيق الأمن النفسي .. وإيجاد البيئة الصالحة .. حتى تخرج أجيالا منتجة .. وعقولا مبدعة .. وأنفسا سوية .. لكن الأمر ربما غير ذلك .. والحمد لله على كل حال ..

أحسب أن ما قدمته أمرا متقررا .. وإن لم يكن شائعا إلا أنه ظاهر .. وللتأكد منه .. يمكنك قراءته في وجوه أعداد لا بأس بها من الصبية والأحداث .. في مجتمعنا السعودي خاصة! ..

أنقل لك هنا كلاما طريفا لأحمد فارس الشدياق يحلل فيه ويقارن بين تربية الصغير عند الإنكليز وعند أهل الشرق .. قال في "كشف المخبا عن تمدن أوربا" وهي رحلة قام بها لبعض بلاد أوربة عام 1848 ..
قال: "ومن العجيب أن الإنكليز قد يبلغ أحدهم السبعين ولا يخطه الشيب لا في رأسه ولا في عارضه، وإنما يغلب عليهم في هذا السن الدرم والدرد أعني سقوط الأسنان. وعندي أن أعظم أسباب الشيب في الأصل هو الهم والخوف من ظلم الولاة وذي الإمرة ... إلى أن قال: وترى الولد يمشي في المدن الكبار وحده ليلا ولا يخشى شيئا، ولا هيبة لذوي المراتب والمناصب منهم أو للعسكر والشرطة عند المارين بهم ... وعندي أن عدم الهيبة والخوف على صغر هو الذي يورث جيل الإفرنج جميعا الإقدام والجرأة على الأمور والكلام، ويزيدهم بسطة في الجسم والعقل، ويبطئ بهم الشيب والهرم، فإن إلقاء الرعب في قلب الصغير كلوافح الرياح العاصفة على الفرس، فمتى تمكن منه جعله بعد ذلك غير صالح للمساعي الجليلة، وما عدا خوف الكلام والحكام والظلام في بعض البلاد الشرقية فإن الأمهات يزرعن في قلوب أطفالهن الخوف من العفريت والروح الشرير والخيال والظلام وغير ذلك فتثبت العادتان، ولولا أن أهل المشرق من طبعهم التسليم للمقدور لما رأيت منهم أحدا تصدق عليه صفة الرجولية." (!!) ..

وذكر الشيخ علي الطنطاوي كلاما أطرف وأظرف عند حديثه عن اختطاف المناضل الكبير فخري البارودي من قبل قوات الاحتلال الفرنسية .. قال: "وخرج أبناء دمشق بأيديهم، وأقبلت الجيوش الفرنسية بحديدها ونارها، وكانت المعارك التي يصطرع فيها الحق والقوة، والدم والنار، والصدور والحديد، وبينما المواجهة على أشد ما يكون إذا خمسون من الأطفال لا يتجاوز سن أكبرهم التاسعة، ينبعون من بين الناس، ويخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ الذي فرّ من مدرسته وحقيبته ما تزال معلقة على عنقه، وقد حمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام، وأجير الخباز ... إلى أن قال: ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذا في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيرا جدا ما أظنه قد أكمل عامه السابع، فدعوته، فأقبل حتى أخذ بيدي، وجعل يرفع برأسه إلي،ّ يحاول أن يتثبّت من وجهي، فقلت: لماذا عملتم هذا يا بابا؟ فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي). قلت: ومن قال لك ذلك؟ قال: أمي، وقالت لي: هليّ يموت بالغصاص يغوح عَ الجنة (يريد من يموت بالرصاص يذهب إلى الجنة). قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي، هل ترضى؟ قال: لا، خلي يغوحوا (يروحوا) هدول كمان ما بدنا ياهم! (يريد فليذهب هؤلاء أيضا، لا نريدهم) فسكت، ثم قال: أستاذ ليش الإسلام ما لهم عسكغ (عسكر)؟ فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأن شيئا جاشت به نفسي، ..." ..

هذه كانت أحداثا وأحاديث ذكريات .. حصلت في أوقات ووقائع محددة .. لكن هنا كلام مؤصل مؤسس للعلامة ابن خلدون .. يقترب فيه جدا من الجراح .. وقد سبق عصره بفكره وطرحه ورؤاه .. فلله دره .. قال في "مقدمته":

الفصل الأربعون: في أن الشدة على المتعلمين مضرة به ... وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه ... وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين ... فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب ... الخ. ا.هـ.

إنترنت بلا مودم .. ولا خط هاتف .. ولا جهاز كمبيوتر!! ..

"كل ما نفعله في هذه الحياة هو للخروج من العزلة" (مثل هندي)

لعمري لقد أصاب هذا الهندي نصف الحقيقة .. ولكنه أضاع كأكثر من في الأرض نصفها الأخطر ..

وقال الدكتور عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي: قال لي أبي: يا بني الكرة الأرضية أصغر من أن تكون للرجل وطنا ..ا.هـ.

ما يعني هذا الكلام؟!! ..

هناك شيء كامن في النفوس كمون النار في الزناد .. هناك طبائع فينا لم نكتشفها بعد .. زويت في العقل الباطن .. لعلها ما يسميها النفسانيون "هامش الشعور" ..
لنقم بعملية تحليل نفسي! ..

لماذا يهم الإنسان بالانتجاع .. النأي .. الهُيام في البراري .. التطويح في الصحاري .. الضرب في الأرض .. والضرب في الإنترنت؟! ..
لمَ قال الشاعر:
فاتني أن أرى الديار بطرفي *** فلعلي أعي الديار بسمعي؟! ..

ولماذا نتدخل لا لشيئ وإنما ليرد علينا من نرغب أن يرد علينا ولو بالسب لنشعر بعدها أنه .. دار في فلكنا ولو نصف دورة .. كما قال أبو نواس:
أتاني عنكِ سبكِ لي فسِبني *** أليس جرى بفيكِ اسمي فحسبي؟!!

وما سبب استدعاء الكلام مع الآخر بالجد مخلوطا بالهزل .. واصطناع أحدوثة حسنة عند اللقاء؟! ..

لماذا نقوم بهذا الدور الذي وصفه جميل بن معمر بقوله:
فلربّ عارضة علينا وصلها *** بالجد تخلطه بقول الهازلِ؟! ..

دعنا نذهب أبعد من ذلك لتعلم مدى اللقافة عند الإنسان .. ما دخل هذا الإنسان بالمريخ وزحل؟ لماذا أرسلنا المسابير سبيريت وأوبورتيونيتي وكاسيني للمريخ وزحل؟ وسررنا لمشاهدة أول تصاوير قادمة من هناك؟! .. وفرحنا لحصولنا على أدلة متوهمة تنبئ عن وجود حياة على هذين الكوكبين؟!! ..

أضقنا ذرعا بالأوادم الذين معنا في الأرض؟! ..

الإحصاءات تفيد أن عدد سكان الأرض ستة مليارات إنسان .. ويتوقع أن يصل إلى عشرة مليارات في عام 2050 .. ويريد المرء فينا أن يتعرف عليهم كلهم .. ويعرف أحوالهم وأخبارهم وطبائعهم .. وما ذلك إلا لأنه ممتلئ بالفضول .. نزّاع للمعرفة .. يريد يحصي كل شيء علما ..
تماما مثل ذلك القرد الأعور .. الذي وصفه شوقي في قصة "القرد والفيل" بقوله:
وكان ذاك القرد نصف أعمى **** يريد يحصي كل شيء علما ..

إن "المعرفة" فضلا عن أنها وسيلة للتعبد والتكسب .. فهي لذة عظمى .. لا تضاهيها لذة .. وقد جعل الرازي "لذة المعرفة" في أرقى "أقسام اللذات" ..
جاءت الإنترنت .. مدينة الخيال والأحلام .. ووندر لاند .. وصارت بيئة جديدة أغرت الناس بالترحّل إليها فارتحلوا .. يبغون .. تبادل المشاعر .. المطارحة الفكرية .. المشاركة الوجدانية .. المساجلة الشعرية .. التحرش الفكري .. تبادل الآراء .. الإرشاد والاسترشاد .. التعرف على الشعوب والقبائل .. والناس والطبائع والتقاليد .. البحث عن الحقيقة .. البحث عن السعادة .. البحث عن المفقود .. البحث عن الجديد ..

إن الإنسان .. كل إنسان بطبيعته وفطرته ميال للتجديد والبحث عن الجديد حتى يهلك .. في اللباس والدار والأثاث وفي أساليب الكلام والخطاب أيضا ..

وهذه الطبيعة مستكنة في النفس .. لا يشعر بها حتى صاحبها .. رغم مشاهدته آثارها وترددها في نفسه .. والناس متفاوتون فيها لكنهم متفقون عليها .. وما ولوج المرء الإنترنت إلا لتلك الطبيعة وتلك الرغبة .. فإن تعثر الاتصال ودخول الإنترنت فكأن الإنسان قد عزل عن العالم .. وهو يرفض العزلة بكل أشكالها وصورها .. مذ كان محبوسا في بطن أمه .. ولو وجد إنترنت وهو في بطن أمه لما خرج منها باكيا ..

هنا .. أتطوع وأقدم له بديلا عن الإنترنت .. أو هي الأصل وليست بديلا .. إنترنت تكون معه أينما كان .. إنها .. حب الله .. خوفه ورجاؤه .. قراءة القرآن .. الخلوة مع الله .. التفكر في آلاء الله .. سؤال الله .. استجداء الله .. الاطراح بين يديه .. الركون له .. الاعتماد عليه .. الإخبات له ..

ولا تحسبنّ أن المحتاج لله هو من وقع في بلية أو دهته رزية .. بل أحدنا لا يمكن أن يعيش بدون الله .. فلو تعرفت الناس كلها وتعرفتك .. فستظل في كدر وتنغيص حتى تعرف خالقك ..

قال ابن قدامة: فلو أن الإنسان عرف كل شيء ولم يعرف الله سبحانه، كان كأنه لم يعرف شيئا .. ا.هـ.

وقال ابن القيم: "فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ... ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور والضياء، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ... فبعث الله رسله لإخراج العبد منها إلى العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه ألبتة ..الخ" ..

وإذا أردت معرفة عظمة الله وأنها أعظم من معرفة الإنترنت .. فدونك هذا الكلام الجميل لابن القيم أيضا .. قال:
الله .. اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان، وجود وفضل وبر فله ومنه، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه، فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسموات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والاشقياء .. ا.هـ.