مرحبا بالزوار ..

مرحبا بالزوار في مدونتي الأولى .. يسعدني تشريفكم وإطلالتكم .. (خالد الحربي)














السبت، 31 يوليو 2010

عودة القُصَّاص والحكواتية ..!!

في هذه الأيام - بل من سنوات قريبة - بدأ موّال جديد يروج في سوق الثقافة والمثقفين ..
ولهذا الموال سعاته والمبشرون به وهم النخبة ذات الرؤية النافذة والإدراك العميق!! ..

تقديري أن هذا التيار أو الموال سيزول كما بدأ .. كأي موضة في الأزياء النسائية ..

حقيقة لا أدري ما هي الشريحة المستهدفة لهذا النهج الجديد؟ ..

أهم مدراء الإدارات أم طلاب التحافيظ أم رعاء الشاء..؟

أهم المنظرون أم الدعاة أم الأعراب الجفاة..؟!

أصبحت معظم الشركات الكبرى وهيئات التدريس والمؤسسات الحكومية تمنح منسوبيها إحدى هذه الدورات طلبا لتحسين الأداء الوظيفي
وصقلا لمهارات كوادرها ..

ومن أمثلة هذه الموالات:"العادات السبع" .. "فن التعامل" .. "بناء الثقة" .. "مهارات التغيير" .. "كيف تتعامل
مع مرؤسيك" .. "إدارة الوقت" .. "البرمجة اللغوية العصبية NLP" .. وفي نفس الباب دراسات وكتب وكتيبات وكتب جيب كثيرة ومتنوعة تعج بها المكتبات .. مثل: "دع القلق وابدأ الحياة!" .. "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في النفوس" كلاهما لديل كارنيجي وهو أحد صناع الحياة - والعجب أنه مات منتحرا!!- .. "ثلاثة عشرة قاعدة أساسية تقودك إلى النجاح" .. "ثمانية أصول لتتجاوز العقبات"، كلاها لمؤلفين خواجيين .. "النصائح الذهبية العشرة " لمجموعة دكاترة من جامعة أكسفورد ..

بل الأدهى أنه قد زادت أشكال وألوان هذه الخزعبلات فاسمع لهذه الموديلات الجديدة:

دورات التدريب على الريكي .. دورات التدريب على التشي كونغ .. دورات التنفس العميق والتنفس التحولي .. دورات
التأمل الارتقائي .. دورات الاسترخاء .. دورات اكتساب الغباء .. دورات البرمجة اللغوية
العصبية .. دورات الماكروبيوتيك .. دورات التاي شي .. دورات المشي على النار ..

وسنستورد كل سنة المزيد من هذه الأفكار العوجاء .. حتى نستغني عن ثلث التراث الإسلامي مع المحافظة على الثوابت طبعا ..

أي ثوابت بارك الله بك؟! ..

كأن المسألة مسألة تأجير عقول أو تفكير بالوكالة!! أو كأننا لا يمكن أن نرتقي إلا بهذه الدورات رغم ما وهبنا الله من ذكاء
نسبي ووعي عادي ..

الذي آسف له وأطاطئ منه رأسي خجلا حتى لتكاد الأرض تبتلعني هو تسارع وتهافت بعض الدعاة والمشايخ ومن له
نسبة للعلم - الشرعي بس - على حضور هذه الدورات وتطويعها لخدمة الدعوة وتسخيرها لنشر الدين!.. واخجلتاه!!..
قصة منسوبة للأديب المسلم سيد قطب تبين شيئا مما أريد بيانه .. يروى أنه حينما قُدم سيد للإعدام بعثوا له بشيخ أزهري معمّم ليلقنه الشهادة قبل أن يعدم - وهذا سائر عندهم - تقدم الشيخ من سيد وأفهمه أنه جاء ليلقنه الشهادة .. فقال له سيد:
وماذا كنت أفعل طوال عمري؟ .. إن "لا إله إلا الله" التي تستأكل بها وتعيش بها هي التي أموت من أجلها .. سيأتي مزيد
كلام عن نقد هذا الاتجاه ..

قامت إدارة قسمنا مرة بعقد دورة لموظفيها عن "العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية The 7 Habits For The
Highly Effective People" لفضيلة الشيخ ستيفن كوفيي .. وزّع علينا المدرب - أو الحكواتي بتعبير أدق - كتاب الشيخ ستيفن ومعه شريط له .. ومعه كذلك إضبارة محشوة بأوراق وجداول وخطط يومية وأسبوعية وشهرية وحولية وعمرية ومربعات وفراغات وطلاسم وتعاويذ .. كان عددنا في الدورة قرابة الأربعين .. خرج بعض الزملاء مبهورا ومطبلا للدورة وحسن أداء المدرب - وبحق فقد أجاد الدور -.. أبديت له مخالفتي لفكرة الدورة من أصلها فزاد عناده وأظهر التزامه بتعبئة الجداول والفراغات إلى حين الوفاة - نسأل الله حسن العاقبة - .. لو أنني حلفت ما حنثت أن أحدا من الزملاء لا زال ملتزما بطريقة المؤلف لشهر واحد
فقط ..!!

حقيقة يا معشر الطيبين! أن الشغلة كلها بكش وبيع كلام وتقليعة جديدة لمن ملّ الرتابة في دنياه أو أراد ابتكار حيلة جديدة
لأكل أموال الناس بالباطل ..

هذه التقليعة أشبه شيء بالأباطيل والأسمار ومدربوها أشبه شيء بالقصّاص والحكواتية كما قال الشاعر:
هل صحّ قول من الحاكي فنقبله *** أم أن ذاك أباطيل وأسمارُ؟!!
أما العـقول فآلت أنه كـذبٌ *** والعقل غرسٌ له بالصدق إثمارُ ..

العجب أن القصّاص والحكواتية يتسمون بأسماء كبار ليسدوا النقص الذي يعيشونه ..
يتسمون بـ: ممارس.. ممارس أول.. كبير ممارسين..... !


قال الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتصم فيه ومعتضد ..
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ..
تماما هؤلاء الممارسون كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد ..

إن العلوم غير الشرعية إما علوما طبيعية تجريبية كالفيزياء والهندسة والطب أو علوما إنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس
وعلوم التربية .. أرجو قبول هذه القسمة حتى ولو تنزلا..
أما الأولى فعلى العين والرأس وبها ونعمت .. وهي ملك مشاع تتوارثها الأمم وتزيد فيها .. ومن أسباب انحطاطنا - كما
يقرر ذلك أبو الحسن الندوي - تخلفنا في الأزمنة الأخيرة في هذه العلوم .. أما النوع الثاني ففيه كلام كثير .. ولكن ما أود ذكره أنه رغم قبول العالم الإسلامي لعلوم النفس والاجتماع والتربية والفلسفة والقانون ووو... وتدريسه لها في مناهج التعليم الثانوي والجامعي وعمل دراسات وإعداد بحوث وطروحات ماجستير ودكتوراه .. فضلا عن نفقات إنشاء مباني للكليات ورواتب الدكاترة والمعلمين ونفقات طباعة الكتب والمذكرات .. رغم كل ذلك فإن هذه تصرفات هوجاء وتقليد أعمى وهدر للمال في غير وجهه وليس لها أي داع بل هي ضرر وإضرار وتعطيل لعجلة التنمية ..

يخرّج لنا قسما علم النفس وعلم الاجتماع أخصائيين نفسانيين وأخصائيين إجتماعيين كل سنة .. أراهن أن أكثر من نصفهم
فهم تخصصه كما هو أو على الأقل مقتنع به.. [دخل القسم لانخفاض معدله أو لسهولة القسم أو لأسباب مادية أخرى] ..

علم النفس له أكثر من 250 مدرسة معترف بها في الولايات المتحدة .. من أشهرها المدرسة السلوكية ومدرسة التحليل
النفسي .. ولعلم الاجتماع نظريات متباينة: نظرية العقد الاجتماعي .. المدرسة الطبيعية .. المدرسة الوضعية العقلية .. التفسير الميكانيكي للمجتمع .. قل لي بأي مدرسة يعامل ويعالج الأخصائي الناس .. وهذه المدارس متناقضة الأفكار
والأهداف .. كلها خزعبلات وضحك على الدقون ..

الواعظ العامي من جماعة التبليغ يتكلم ببيان ويمتاز بأخلاق ما تجزم أنه ناجح إجتماعيا وهو لم يسمع بفرويد ولا إنجلز
ولا برتراند رسل ولا آدم سميث ولا كانط ولا جنط ..

عجبا لعلوم عديمة الفائدة! ..

هناك في الغرب عدد من المفكرين يتشككون هل علم الاجتماع علم أم لا؟!!..
قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - عن علم النفس: "وهو ليس بعلم ولا شبيها بالعلم"..
وذكر صاحب كتاب "العلمانية" أن بعض المفكرين ومنهم ستيوارت تشيس أنه ما زال يتردد في تسمية علم الاجتماع
اللاديني علما..أ.هـ.
وكتب الدكتور أحمد خضر كتابا يزيد عن ثلاثمائة صفحة سماه "إعترافات علماء الاجتماع" أنكر فيه علم الإجتماع من
أصله .. دعّم كتابه بنقولات كثيرة للغربيين أنفسهم .. والجدير بالذكر أن الدكتور خضر هذا دكتور في علم الاجتماع! ..
الدكتور يحيى اليحيى في كتابه: "في أخلاقنا غنية" حاول إقناع الجمهور المتهافت وكبح جماحهم شيئا جزاه الله خيرا ..
فبين أنا لا نحتاج نتاجهم بل لدينا أرضية صلبة متماسكة من علوم الإخلاق والمعاملات وتزكية النفوس .. التي هي أجمع
وأوسع وأكمل من علومهم الإنسانية ..

وكتب الدكتور خالد الغيث في جريدة المدينة مقالة بعنوان "حقيقة المشي على الجمر" ذم علم البرمجة اللغوية العصبية
وأشار إلى أصوله الوثنية وطقوسه الشركية ..

قرأت مرة للشيخ علي الطنطاوي في "فصول اجتماعية":
"قال: تتكون العادة من مرة واحدة؟
قلتُ: نعم، هذا ما يراه وليم جيمس، شيخ الفلسفة العملية اليوم وإمام السلوكيين في علم النفس. وهو لم يأت في ذلك بجديد،
بل هو يردد ما قاله قبله بألف سنة فقهاء المذهب الحنفي.
قال: وما يدري فقهاء المذهب الحنفي بعلم النفس؟ قلت: إن في هذه الكتب "الصفراء" التي انصرف الشباب عنها ذخائر
من العلوم، ولكنا تعوّدنا ألا نقيم لقول وزنا إلا إذا قاله عالم أوربي أو أميركي. وهاك كتاب "الإحياء" للغزالي مثلا، فاقرأه
تجد فيه من أحوال النفس ما ليس في كتاب في الدنيا." ..

وهذا نقل للأديب المجاهد سيد قطب .. وهو موجود ضمن رسائله الخاصة التي طبعت مؤخرا ..
قال الدكتور صلاح الخالدي:
ومنها قوله - أي سيد - عن أمريكا في رسالته لزميله الأستاذ محمد جبر: "إن أمريكا أكبر أكذوبة عرفها العالم! .. نستطيع
أن نفيد من أمريكا في البعثات العلمية البحتة: الميكانيكا والكهرباء والكيمياء وما إليها .. فأما حين نحاول أن نستفيد من أمريكا في الدراسات النظرية - ومنها طرق التدريس - فأحسب أننا نخطئ أشد الخطأ، وننساق مع الطريقة الأمريكية في الإعلان! ... أما أولئك الذين يتحدثون عن أمريكا كما يتحدثون عن الأعاجيب السبع، فهم يحاولون أن يستمدوا لهم طريقة
جديدة لأنفسهم، من وراء هذا التهويل!" ..

وقال سيد أيضا: "كنت دائم الشعور باستخسار هذا الشعب، الذي يصنع المعجزات، في عالم الصناعة والعلم والبحث، ألا
يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى!! وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها لهذا الشعب، وهو فقير من
تلك القيم الإنسانية جميعا!!!" ..

لا أريد الاستطراد ولكن الموضوع له جوانب متعددة مترابطة ترابط وثيق .. والمسألة ليست وليدة الساعة بل لها مخلفات
قديمة غير أنها طفت على السطح مؤخرا بصورة جديدة جذابة عند السطحيين ..

الذي أفهمه أنهم يهدفون من وراء هذا الموّال الجديد والاتجاه الفريد لإصلاح النفوس وتهذيبها وتقويمها ورفع كفاءتها
الإنتاجية والنوعية .. ولكن هل لدينا نقص في الجانب الذي سيسده ويسدده هذا التوجه الجديد؟ هل ديننا القويم الكامل وتراثنا العريق في مجال العلوم لإنسانية لم يسد هذه الخلة؟! .. ألم يؤهلنا ديننا ولو لفترة مضت لقيادة العالم نظريا وعمليا؟! ..

***
بعد هذه الخطبة أقول:
أولا: نعم اتفق أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها .. قال الشيخ سفر في رده على المفكرين الأمريكيين الستين:
"إن الدائرة الإسلامية مهما اتسعت لا تدعي أبداً احتكار الحق أو العدل لمن هم داخلها كما يتوهم كثيرون في الغرب - ربما بناءً على أخطاء بعض المسلمين في فهم الإسلام وتقديمه - بل هي تعلم عن يقين أن من قواعد الشريعة أنه حيث كان العدل فثم شرع الله، وأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها" .. ثم قال بعد ذلك: "ومن هنا لم يتحرج فقهاء
الإسلام بل الخلفاء الراشدون من الإفادة من أي مصدر كان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قرر حكماً شرعياً - مخالفاً لما كان عليه العرف العربي - استناداً إلى أن الروم وفارس يفعلونه" ويقصد به الشيخ سفر حكم "الغيلة" – رضاع الطفل من أمه الحامل – والحديث فيه رواه مسلم ..

كذلك أنشأ أحد الخلفاء الراشدين ديوان الجند مقتبسا من الأمم المجاورة .. وقام السلطان محمود الثاني – من أواخر
سلاطين آل عثمان – بإعداد أول جيش نظامي في الدولة العثمانية على نسق الجيوش الأوربية نظرا لتقهقر الانكشارية وانهزامهم .. ونقل ابن المقفع "كليلة ودمنة" من الفارسية إلى العربية .. والفرس قبل ذلك نقلوها من الهندية إلى الفارسية .. وقد حوت
جملة من نصائح وتجارب حكماء الهند ..

مثال أخير يبين الاستفادة من الآخر مما لا مضرة فيه على الدين: قال الشيخ الأديب علي الطنطاوي في "ذكرياته":

"وهناك طريقة جميلة لتدريس علم النحو عند الفرنسيين، فإذا أردت أن تعرف الفاعل تسأل مثلا من هو الذي ضرب؟ وإذا أردت أن تعرف المفعول به تسأل من هو الذي ضُرب؟ وإذا أردت أن تعرف الفعل تسأل ما الذي فعله الضارب؟ …
وهكذا الحال وظرفا الزمان والمكان.."..

إن كتب التراث الإسلامية والعربية مملؤة بحكمة الصين وطب الهند وفلسفة اليونان .. ففي كتاب "عيون الأخبار" لابن
قتيبة .. وكتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه .. وكتاب "نشوار المحاضرة" و"الفرج بعد الشدة" للقاضي التنوخي .. وكتاب "الحيوان" للجاحظ .. وكتاب "الأذكياء" لابن الجوزي .. وكتاب "المستطرف" للإبشيهي وغيرها .. فيها مئات بل
آلاف الحكم واللطائف والظرائف والنكات من كنوز الأمم الخالية ..

لا بأس أن أطرفكم بشيء منها: وهو ما جاء في "الفرج بعد الشدة" مشيدا بفضيلة الصبر .. قال القاضي التنوخي: سخط
كسرى على بزرجهمر فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفد بالحديد. فبقي أياماً على تلك الحالة، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو مشروح الصدر مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال!. فقال: اصطنعتُ ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها فهي التي أبقتني على ما ترون! قالوا: صف لنا هذه الأخلاط لعلنا ننتفع بها عند البلوى. فقال: نعم. أما الخلط الأول: فالثقة بالله عز وجل، وأما الثاني: فكلّ ما شاءه الله كائن، وأما الثالث: فالصبر خير ما استمهل الممتَحن، وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع ولا أعين نفسي بالجزع؟ وأما الخامس: فقد يكون أشدُّ مما أنا
فيه، وأما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج. فبلغ ما قاله كسرى، فأطلقه وأعزّه. أ.هـ.
ثانيا: هم يقولون في مقدمة دراسة الهندسة اللغوية العصبية NLP: "كذلك الإنسان يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فالإنسان يكتسب من أبويه ( وأسرته، ومدرسته، ومجتمعه ) معتقداته، وقيمه، ومعاييره، وسلوكه، وطريقة تفكيره. كل ذلك عن طريق حواسه، و عن طريق اللغة التي يسمعها منذ صغره، ويقرأها عندما يتعلم القراءة. تذهب جميع هذه المعلومات إلى دماغه وجهازه العصبي، فيكون صورة للعالم من خلال ذلك. ولا يكون لديه إلا ذلك العالم الذي تشكل في ذهنه، بغض النظر عما يحدث في العالم الخارجي. ومن ناحية أخرى فإنه إذا تغير ما في ذهنه، فإن العالم بالنسبة له سيتغير، بغض النظر عما يحصل في العالم الخارجي. وبالتالي فإن الإنسان إذا اعتقد أن بإمكانه أن يقوم بعمل ما، أو اعتقد بأنه لا يمكنه أن يقوم به، فإن ما يعتقده صحيح في الحالتين. مادا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أن الإنسان يستطيع
تغيير العالم عن طريق تغيير ما في ذهنه!! ولكن كيف يمكنه تغيير ما في ذهنه؟"..

قلت: وهل في هذا الكلام جديد؟!..

إن من الأكاذيب الكبار التي يتشدق بها المطبلون لهذا التيار أنه إذا تغير ما في ذهنك فإن العالم سيتغير بغض النظر عما
يحصل في العالم الخارجي .. هذا كلام مثالي لا يمكن للبشر لأي إنسان أن يفعله بحذافيره .. الإنسان يعتريه خوف وحرص وجوع وفتور ونسيان .. ويحسد ويحتال ويخادع .. مهما كان هذا الإنسان .. هل يمكن أن يغير الناس أذهانهم وسلوكهم عن طريق كتب الخواجات وفشلت كل تراثات الأمم السابقة؟! هل عندهم جديد حقيق بالدرس والمطالعة؟ لا يمكن أن يكون هذا ..

كما أن
مسألة الطبائع والتصورات والعادات مسألة عميقة راسخة في النفوس .. ليس بدورة مدتها شهر أو أسبوع ورسوم 2000 ريالا سعوديا يغير المرء طريقة حياته .. ويخرج راشدا .. بل تحتاج إلى دربة ومرافقة وصبر وتضحية .. وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ..

إن تقويم الأخلاق وإصلاح الجبلات وتهذيب الأنفس .. لا يتصدى له إلا نبي أو مصلح بمواصفات خاصة .. ليس حكواتي أو بيّاع كلام ..


لو أخذ بوش أو شارون دورة في البرمجة اللغوية العصبية .. أراهن إن تغير من فكره المنكوس قدر أنملة.. كثير من
شرائح المجتمع هكذا.. بل أكثر من في الأرض هكذا .. هذه الدورات لا يستفيد في الألف منها إلا واحد.. وقبل ذلك نحن
أصلا لسنا في حاجة إليها ألبتة ..

يتركونا خلاص.. لهم فلسفتهم وحضارتهم ولنا فلسفتنا وحضارتنا.. لهم دينهم ولنا ديننا..

ثالثا: المشكلة أن الحكواتية والقُصَّاص من بني جلدتنا الذين تلقفوا هذه الأشياء – ولا أقول العلوم – ظنوها وحسبوها فتحا عظيما ونصرا مجيدا .. إن مشكلتهم الأساس جعلهم الأصل فرعا والفرع أصلا .. وبعبارة أفصح
هجر مصادر التلقي الأساسية في ثقافتنا وحضارتنا الزاخرة بكل العلوم والفنون .. فالمفروض أن لا تجعل هذه الكتب منهاجا ومرجعا ومتنا يشرح للناس وتوضع عليه الحواشي والتعليقات والإضافات من آي القرآن وأحاديث المصطفى
صلى الله عليه وسلم وآثار السلف وسير علماء وأبطال الإسلام بل العكس قد يقبل استئناسا فحسب ..

إن تدريس الناس هذه الكتب لنتعلم منها منها مكارم الأخلاق وطرائق النجاح طريقة عوجاء وتخليط في ترتيب الأوليات ..
والمنبغي تربية النشء والشباب والكهول والشيوخ والنساء على الدين وآثار السلف وكتب التراث الحافلة .. فإن اتفق واقتبس شيء من حكمة الهنود أو تجارب الأفارقة فلا بأس بشرط أن لا يتعارض مع أصولنا فإن تعارض نفضناه من
أيدينا ..

خذ هذين المثالين ولاحظ أهمية ترتيب مصادر التلقي:
قيل لتوماس أديسون - مخترع المصباح الكهربائي - بعد أن أجرى عشرة آلاف تجربة لينجح في الأخيرة منها في صنع المصباح الكهربائي أما مللت من كثرة التجارب الفاشلة؟! قال: لو لم أخطئ 9999 مرة لما نجحتُ في المرة العشرة آلاف ..

قال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في الحث على عدم العجلة في تحصيل العلم: من رام العلم جملة فاته جملة، ولكن خذه مع الليالي والأيام .. انظر "البداية والنهاية"..

لو أننا اقتصرنا على "الإحياء" للغزالي أو مختصره لابن الجوزي أو مختصر مختصره للمقدسي .. أو "الترغيب والترهيب" للمنذري .. أو "رياض الصالحين" للنووي .. أو "حياة الصحابة" للكاندهلوي .. أو على ذلك السفر الضخم المطبوع في سبع مجلدات فاخرة :"نضرة النعيم في
أخلاق الرسول الكريم" لوجد فيه الناظر ما يجعل نفسه تسمو إلى آفاق روحانية وعالم أشبه مدينة الفارابي الفاضلة!
ولنجح الناس بجميع شرائحهم في جميع الميادين .. لا أعني هذه الكتب بالذات فتعيينها لا يدل على تعينها والمكتبة العربية طافحة بآلاف من أشباهها ..

رابعا: من آفات هذه الموجة .. تجلي مظاهر الانهزامية في عالمنا الإسلامي حتى في مجال العلوم ا
لإنسانية .. وكأننا منها خواء .. قام الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله وعفا عنه – بكتابة مستخرج على "دع القلق وابدأ الحياة!" للشيخ ديل كارنيجي وعنون له بـ"جدد حياتك" تتبع فيه الغزالي النقاط والأفكار التي وضعها كارنيجي ودلل لها بأدلة من الكتاب
والسنة.. أليس هذا انقلاب واضح في التلقي؟!!

يستحيل أن نقول هذه الأمور نستفيد منها فقط في جانب إداري أو تنظيمي أو دعوي ونضمن تماما أن لا تؤثر في ع
واطفنا .. لابد ولا مفر أن نكن ولو شيئا يسيرا من من التقدير والإجلال والإشادة بأهلها .. يكذب بعض العقلاء والمستنيرين حينما يؤكدون أننا نأخذ علومهم الإنسانية ونطبقها لننجح في الحياة أما الدين والثوابت فلا مساومة عليها..!! الكفار حطب النار رضي من رضي وسخط من سخط .. فهل نجعلهم روادا لتهذيب النفوس وأئمة للنجاح في الحياة
الدنيا؟!! .. لا ولا كرامة ..

ليت شعري كيف يكون مصدر استمدادنا للنجاح في الحياة الدنيا من كوفيي وكارنيجي ومصدر استمدادنا للنجاح في الحياة
الأخروية من البخاري ومسلم!!..

كيف يختمر هذا في هامش الشعور ونحن دائما نسمع ونقرأ أقوال السلف ومنها كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن في الدنيا
جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"..

في القرون الثلاثة الأخيرة عندما انتشرت الطرق الصوفية انتشار النار في الهشيم كان الرجل يُسأل عن عقيدته ومذهبه
(الفقهي) وطريقته ..

كأن الطريقة أمر آخر نسيه السلف يقود إلى الجنة أو يهذب النفس .. أخشى أن يأتي يوم يُسأل الرجل عن عقيدته ومذهبه
والأسلوب الذي يتبعه لينجح في الحياة الدنيا (الدنيا)..!!

خامسا وأخيرا: من باب النصيحة: على المشايخ التنبه والتنبيه على هذا الخطأ الجوهري الجديد .. وإلا فليس بمستغرب أن ن
فاجأ في قادم الأيام بردود فعل غير مستحبة .. وإن لم يُنبه إلى هذا الأمر مبكرا لتم تدريس كتاب "العادات السبع" أو
"البرمجة اللغوية العصبية" في الدورات العلمية الصيفية مع علم المصطلح وعلم الأصول وعلم القراءات وعلم النحو ..

ختاما أقول .. لا تغتر بجماعة من الأغرار رموا كل ما ألفه المؤلفون وكتبه المفكرون وخطه العلماء العاملون في مختلف القرون
وراءهم ظهريا .. واستقدموا شيئا رأوه حلوا عذبا جميلا أخاذا كتبه كارنيجي وكوفيي وتشومسكي وغيرهم .. وجعلوه أصلا وإماما ونبراسا ومنطلقا لا تصلح الحياة إلا به .. ونسوا كل ما كتبه أجدادنا المسلمون عجمهم وعربهم .. وقد حضرت إحدى هذه الدورات مرة فقصّ علينا الحكواتي (المدرب) عددا من الحكايات لا تحصى كثرة .. وكل الأفكار التي فيها .. تحمل الأذى .. حسن الإنصات .. طول النفس .. الاعتماد على النفس .. تعلم الابتسام .. التعاون .. استخراج المواهب والنواحي الإيجابية .. كلها ورب الكعبة مبثوثة ومطروقة ومسطرة عند أكثر الأمم لا سيما أمة الإسلام التي تزيد على الكفار بمزايا في تزكية النفوس وإصلاح القلوب والتعاون على البر والتقوى الكثير الكثير .. لكن قومي كما قال
الطنطاوي رحمه الله:
كثيرا ما كنت أناقش أناسا من المجددين فآتيهم بالكلمة الخالدة لأحد علماء الشرق، فيقلبون شفاههم، ويجعدون جباههم،
ويعرضون عنها ازدراء لها، فأجيئهم بالكلمة مثلها وفي معناها لعالم إفرنجي، فيسمعون ويخضعون، ويهزون رؤوسهم إكبارا لها، وإعجابا بها .. وأنقل القاعدة الشرعية عن فقيه من فقهائنا فيأبونها، فإن نقلت هذه القاعدة عن فقيه إفرنجي
قبلوها .. ويحقرون العادة من عاداتنا، فإن علموا أن شعبا من شعوب أوربا الراقية، أو أمريكا قد اعتادها عظموها .. كأن الخير لا يكون خيرا لذاته بل (للماركة الإفرنجية) عليه والشر لا يكون شرا لذاته بل للطابع الشرقي عليه ..ا.هـ.
حتى أن العوام يعرفون أسرار النجاح بفلسفتهم وطريقتهم الخاصة .. ولا داعي للكذب عليهم وتهويل الأمور باختلاق
مصطلحات رنانة وأكاذيب فتانة .. وجعل البرمجة اللغوية العصبية وكأنها إكسير الحياة ونهاية التاريخ ..

العوام لديهم من الحكمة والتجارب والرصيد الكبير من الأمثال الشعبية أوسع وأكمل من القصّاص والحكواتية الجدد ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق