مرحبا بالزوار ..

مرحبا بالزوار في مدونتي الأولى .. يسعدني تشريفكم وإطلالتكم .. (خالد الحربي)














الخميس، 19 أغسطس 2010

اختبر نفسك اختبار "المدح والذم"! ..

انظر إلى أبي حامد الغزالي .. كيف قسم أحوال الناس عند ورود المدح والذم إلى أربعة أحوال .. (باختصار) .. الأهم أن تقرأ تقييم الغزالي لنفسه! ..

1. الحالة الأولى أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب.

2. الحالة الثانية أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافأته ويفرح باطنه ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال .

3. الحالة الثالثة وهي أولى درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالا.

4. الحالة الرابعة وهي الصدق في العبادة أن يكره المدح ويمقت المادح إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه ومرشد له إلى مهمه.

نقلت هذا كي نرى كيف قيّم أبو حامد نفسه:

قال الغزالي: وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه و سلم قال: "ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من، فقيل: يا رسول الله إلا من؟ فقال: إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا، وأبغض المدحة واستحب المذمة" وهذا شديد جدا، وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية، وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح ولا يظهر ذلك بالقول والعمل، فأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها، ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنه لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما بعده من المرتبتين .......... الخ

صراحة كتاب أبي حامد هذا يجعل من يقرأه في دهشة بل في كركرة شديد لما فيه من دقة لتشخيص أحوال النفس البشرية .. مع أنه كتاب في علم الأخلاق! .. وكما قال الطنطاوي مرة .. أن أبرع خمسة كتاب - بتشديد التاء - في تاريخ العربية .. أبو حامد الغزالي في "الإحياء" وأبو حيان التوحيدي .. والجاحظ .. ونسيت الأخيرين ..

د. جابر قميحة يرد على أحمد شوقي .. رمضان ودع وهو في الآماقِ ..

ردا على قصيدة أحمد شوقي الشهيرة:

رمضانُ ولى هاتها يا ساقي **** مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ ..

يقصد (الخمرة) وأنه حبسها عن نفسه في رمضان!! ..

كتب الدكتور جابر قميحة معارضا القصيدة بنفس القافية والروي:

في وداع رمضان لا يا أمير الشعراء

أ.د.جابر قميحة

رمـضـانُ ودَّع وهو فى الآماق **** يـا لـيـته قد دام دون فراقِ

مـا كـان أقـصَـرَه على أُلاَّفِه **** وأحـبَّـه فـى طـاعـةِ الخلاق

زرع الـنـفـوسَ هـدايةً ومحبة **** فـأتـى الـثمارَ أطايبَ الأخلاق

«اقـرأ» به نزلتْ، ففاض سناؤُها **** عـطـرًا على الهضبات والآفاق

ولِـلـيـلةِ القدْر العظيمةِ فضلُها **** عـن ألـفِ شـهر بالهدى الدفَّاق

فـيـهـا الملائكُ والأمينُ تنزَّلوا **** حـتـى مـطـالعِ فجرِها الألاق

فـى الـعامِ يأتى مرةً .. لكنّه.. **** فـاق الـشهورَ به على الإطلاق

شـهـرُ الـعبادةِ والتلاوةِ والتُّقَى **** شـهـرُ الـزكاةِ، وطيبِ الإنفاق

• • •

لا يـا أمـير الشِّعر ما ولَّى الذى **** آثـاره فـى أعـمـقِ الأعـماق

نـورٌ مـن اللهِ الـكـريمِ وحكمةٌ **** عـلـويـةُ الإيـقـاعِ والإشراق

فـالـنفسُ بالصوم الزكى تطهرتْ **** مـن مـأثـم ومَـجـانةٍ وشقاقِ

لا يـا «أميرَ الشعر» ليس بمسلمٍ **** مَـن صامَ فى رمضانَ صومَ نفاقِ

فـإذا انـتـهـتْ أيامُه بصيامِها **** نـادى وصـفَّق (هاتها يا ساقى)

(الله غـفـار الـذنـوب جميعها **** إنْ كان ثَمّ من الذنوبِ بواقى)

عـجبًا!! أيَضْلَع فى المعاصِى آثمٌ **** لـيـنـالَ مغفرةً.. بلا استحقاقِ؟

أنـسـيـتَ يومَ الهولِ يومَ حسابِه **** حـينَ التفاف الساقِ فوقَ الساقِ؟

وتـرى الـمنافقَ فى ثيابِ مهانةٍ **** ويُـسـاقُ لـلـنيرانِ شرَّ مساقِ

لا يا «أمير الشعر» ما صام الذى **** رمـضـانُـه فـى زُمْرة الفسَّاق

لا يا «أمير الشعر» ما صام الذى **** مـنـع الطعام، وهمه فى الساقى

من كان يهوى الخمرَ عاش أسيرَها **** وكـأنـه عـبـدٌ بـلا .. إعتاق

الـصـومُ تـربيةٌ تدومُ مع التُّقَى **** لـيـكونَ للأدواءِ أنجعَ راقى

هـو جُـنـةٌ للنفس من شيطانِها **** ومـن الصغائرِ والكبائرِ واقى

الـصومُ - يا شوقى إذا لم تدْرِه– **** نـورٌ وتـقْوى وانبعاثٌ راقى

واسـمع - أيا من أمَّروهُ بشعره – **** لـيـس الأمـيـرُ بمفسدِ الأذواق

إن الإمـارةَ قـدوةٌ وفـضـيـلةٌ **** ونـسـيـجُـها من أكرمِ الأخلاق

والـشعرُ نبضُ القلبِ فى إشراقِهِ **** لا دعـوةٌ لـلـفـسقِ .. والفسَّاق

والـشـعر من روح الحقيقة ناهلٌ **** ومـعـبِّـرٌ عـن طاهرِ الأشواقِ

فـإذا بَـغَـى الباغى بدتْ كلماتُه **** كـالـساعِرِ المتضرِم .. الحرَّاق

وإذا دعـتْـه إلى الجمال بواعثٌ **** أزْرى على زريابَ أو إسحاقِ

لـكـنـه يبقى عفيفًا .. طاهرًا .. **** كـالـشّـهـدِ يحلو عند كلِّ مذاق

• • •

رمضانُ - يا شوقى - ربيعُ قلوبنا **** فـيـها يُشيعُ أطايبَ الأعباق

إن يـمْـضِ عـشنا أوفياءَ لذكِره **** ويـظـلُّ فـيـنا طيّبَ الأعْراق

http://www.almadinapress.com/index.aspx?Issueid=1798&pubid=5&CatID=231&articleid=186922

جريدة المدينة - ملحق الرسالة 12 شوال 1427

في الديموقراطية ..

تحيا الديموقراطية!! ..
سأتكلم عن شيئين ..
الإعلام والغباء ..
قد يبدو أن لا رابط بينهما ..
ولكن الثاني أرض خصبة للأول ..
كل الجوانب المضيئة في الديموقراطية مأخوذة - أو مسروقة - من تعاليم ديننا الحنيف .. أما جوانبها المظلمة فمستوحاة من الشيطان ..

كل خير ونفع ومصلحة للإنسانية فإن الإسلام يتضمنها ..
وكل شر وضر ومفسدة فالإسلام يدفعها ويحجمها ..

يرقص الأغبياء طربا لأن أمريكا تريد بناء الديموقراطية في العراق وتريد محاكمة الطغاة والجبابرة ..
وما دروا أن كل فضائل الديموقراطية وشروطها .. الحكومة المنتخبة .. المسئولة .. استقلالية القضاء .. الحرية الاقتصادية .. كلها مما دعى لها الإسلام ..
ولكن لأن الإعلام أصبح يتحكم في العالم ويسيره ..
وظنوا أن روسو جان جاك وهيجل ومنظري الثورة الفرنسية بعامة أول من كتب عن هذه الأشياء ..
وهم ما كتبوا الذي كتبوا إلا انتقاما من الكنيسة البابوية المستبدة والمنحرفة ..
ظنوا وحسبوا أن هؤلاء رواد الخير ومؤسسو الحضارة القائمة على العدل والمساواة ..
هذا عن الإعلام ..
أما الغباء ..
فهو لو لم يوجد لما انطلت أكاذيب الغربيين وإعلامهم على فئام من الليبراليين العرب ..
وأصبحت أقصى أماني مفكرينا أن نبتني برلمانا .. له حق التشريع ..
والسؤال ..
لكي نتمكن من مراقبة الحكومة جيدا ونمنع أي طريق للظلم والاستبداد!!
الغاية من الدين عندهم دفع الظلم والاستبداد فحسب ..
وعقولهم وأذهانهم لم تقف إلا على الطريقة الغربية وحدها .. فقاسوا عليها كل شيء ..
كقصة صاحب رأس الديك ..
وقصته فيما ذُكر أن رجلا أكمه - أي ولد أعمى - ..
فرد الله له بصره وأبصر رأس ديك ..
ثم فقد نعمة البصر بعدها مباشرة ..
فلم ير من الدنيا إلا رأس الديك ..
فأصبح كلما نعتوا له شيئا من الأشياء يسأل وكيف هو من رأس الديك؟ ..
قومنا لا يبعدون بحال عن صاحب رأس الديك ..
الفرق أنه لم ير إلا رأس الديك وهم لم يروا إلا الديموقراطية الغربية ..
وضرب الأمثال للتقريب كما هي طريقة القرآن الكريم ..

خمس طرق لقتل الإنسان ..

"خمس طرق لقتل الإنسان" .. قصيدة للشاعر الإنجليزي إيدوين بروك .. تذكرتها اليوم حين كنت في مكان ما .. أنقلها لكم بتصرف يسير في آخر مقاطعها فقط .. وهي قصيدة لذيذة ماتعة ..

وبروك شاعر إنجليزي .. كان ضابطا في البحرية الإنجليزية .. كتب قصيدته الشهيرة :"خمس طرق لقتل الإنسان" بعد سنتين من انتهاء الحرب العالمية الثانية ..

قال بروك:

هناك طرق معقدة كثيرة لتقتل إنسانا ..

فيمكنك أن تجعله يحمل لوحا من الخشب

إلى أعلى التل وتصلبه عليه ..

لتفعل هذا جيدا تحتاج إلى حشد من الناس يرتدون الصنادل، وديك يؤذن، وعباءة،

وإسفنجة، وبعض الخل، ورجل ليدق المسامير ..

_______

أو يمكنك أن تأخذ قضيبا من الصلب ..

مشكّل ومحمى بالطريقة التقليدية

وتحاول أن تخترق القفص المعدني الذي يرتديه ..

ولكن لتفعل هذا تحتاج إلى أفراس بيضاء، وأشجار إنجليزية، ورجال يحملون الأقواس والسهام، وعلى الأقل رايتين، وأمير، وقلعة لتحتفل ..

_______

وإذا استغنينا عن النبلاء

يمكنك إذا كانت الرياح جيدة أن تدفع الغاز عليه ..

ولكنك تحتاج ميل من الأرض الموحلة المشققة بالخنادق، بالإضافة إلى الأحذية السوداء، وحفر القنابل، ووحل أكثر، ووباء من الفئران، ودستة أناشيد، وبعض الخوذات المستديرة المصنوعة من الصلب ..

_________

وفي عصر الطائرات ..

يمكنك أن تطير على ارتفاع أميال فوق ضحيتك وتتخلص منه بضغط زرار واحد صغير ..

وكل ما تحتاجه حينذاك هو محيط ليفصل بينكما، ونظامين للحكم، وعلماء أمة، وبعض المصانع، ومريض نفسي، وأرض لا يحتاجها أحد لسنوات ..

_________

كل ما ذكرت أولا طرق معقدة ..

لتقتل إنسانا بطريقة أسهل، وأكثر مباشرة، وأكثر أناقة ..

عليك أن تتأكد أنه داخل وسط سوق الأسهم ..

http://www.poetryconnection.net/poets/Edwin_Brock/2650

القصيدة من ترجمة الدكتور عز الدين محمد نجيب

الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

مراسم دفن العقل العربي ..

لدي ملاحظة لا تخص أحدا بعينه بل هي لأرباب العقول الفذة والفهوم الخطيرة .. ولأنصب من نفسي متحدثا عن السطحيين والبسطاء وأصحاب الفكر الأحادي:

كل يوم يسطر في منتديات الفكر تأبين رائع للعقل والفكر البائد ..

لست أدري أية عقل أو أية فكر ينعون! ..

لا أدري لم التباكي والتحسر على العقل المكبل والتفكير الأحادي؟! ..

ومطالبتهم لنا بأن تكون عقولنا نوافذ مشرعة كي تتنسم هواء الحقيقة ..

والدعوة للمطبخ الفكري والحوار مع "الآخر" - أموت وأعرف من هو الآخر هذا -..

بمثل هذه العبارات .. ولأنكم أبلغ وأفصح وتملكون زمام البيان - البيان الجديد - بأيديكم وكأنكم تغرفون من بحر.. ونحن - أو "الآخر" - ألسنتنا عيية وكثيرا ما يرتج علينا .. تدلسون علينا وتخلطون شيئا من الباطل مع أشياء من الحق وتكسونها بالأجراس الموسيقية والمحسنات البديعية ثم نتناظر معكم فنقع ونبهت ولا نستفيق إلا بعد ضحكاتكم المجلجلة ..

يزعم زاعم أن هناك من احتكر الحقيقة واستلبها من الآخر.. وأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة .. كما هم السفسطائيين الأوائل الذين زعموا أن لا حقيقة .. وأن الحقيقة عند كل أحد بحسب ما يراه .. وأنها ليست مقيدة إلا بهوى الإنسان وإشباع نزواته!! ثم انبرى لهم سقراط وصار يناظرهم في أنديتهم ومحالهم فيبدأ معهم بأسئلة تبدو عادية ثم يتسلسل
معهم حتى يوقعهم في تناقض فيضحك عليهم المتجمهرون .. بعدها .. أسس سقراط علم المنطق الذي أفحم وألزم به خصومه من السفسطائيين ..

الحمد لله نحن لا نحتاج سقراط ولا منطقه عندنا قرآن ربنا وسنة رسولنا ناسخة لكل ما قبلها وما بعدها .. يا معشر أرباب الفكر هناك من أعطى العقل أكبر من حجمه .. حتى أكل في عقله مقلب .. قُدس العقل وأُوشك أن يؤله .. كما قرر ذلك كبار الفلاسفة المحسوبون على الإسلام الذين قالوا أن الله هو "العقل الفعال".. لا أمزح .. طالع في كتب العقائد تجد تعريف الفلاسفة لله أنه العقل الفعال ..

العقل تعتوره آفات وملهيات وصوارف: جوع .. خوف .. نعاس .. نسيان .. ذهول .. دهشة .. لا يمكن أبد الآبدين ودهر الداهرين أن يصل العقل بمفرده إلى الحق .. إلى الصواب .. إلى السعادة .. [هناك مناظرة لطيفة بين العقل والنقل في "شرح الطحاوية" حري بقراءتها وتفهمها ولولا التطويل لعرضتها]

كلما نادى أحد بالفضيلة أو إلى تحكيم الشريعة تباكى وتحسر أقوام .. لا أدري بالضبط على ماذا؟!.. يرمون أحدا بأحادية الفكر.. وهم بطريقتهم وهيئتهم قمة في الأحادية - ليس كلهم بل فيهم وفيهم - ..


إذا كانت أكبر العقليات التي مرت على التاريخ كالشافعي مثلا دانت للكتاب والسنة وصح عنه قوله: "إن صح الحديث فهو مذهبي" - أعرف أن البعض يمتعض من هذه الروايات - ..

الغزالي والرازي والخسروشاهي .. ممن درسوا المنطق وحذقوا في المجسطي .. انظر إلى نهاياتهم تر العجب وتزداد إيمانا وتسلم تسليما وتعرف للعقل قدره ..

هذا الكون العظيم الفسيح بكواكبه ومجراته وسماواته وسحبه وجباله أيحيط به فهم أو يدركه عقل؟! .. التطاحن والصراع من عهد آدم إلى يومنا هل نستطيع فك رموزه وتمييز الصائب من الخاطئ والحق من الصواب.. ما لم نحصل على توجيهات وتعاليم سماوية تعرفنا كيف نعيش؟ .. كيف نستنشق الهواء؟! ..

أحمد بن فضلان .. مذكرات أقدم عربي سافر إلى الدانمارك ..

رحلة ابن فضلان .. من أغرب وأمتع وأطرف الرحلات .. تكاد تكون أقدم رحلة قام بها عربي إلى جورجيا وروسيا والبلاد الأسكندنافية ..

سافر أحمد بن فضلان .. مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله .. إلى بلاد الترك والخزر والصقالبة والروس والدول الإسكندنافية عام 297 هـ .. أي .. قبل أكثر من ألف عام! .. وروى ما حدث له بأسلوب سهل ومشوق ..

قال ابن فضلان في مطلع رسالته: "هذا هو كتاب أحمد بن فضلان بن عباس بن رشيد بن حماد، مولى محمد بن سليمان، مبعوث المقتدر إلى ملك الصقالبة، يروي ما شاهده في أرض الأتراك والخزر والصقالبة والباشغرد والروس وأهل الشمال، وعن قصص ملوكهم وسلوكهم في كثير من شئون حياتهم" ..

وكانت وظيفته كما يقول: "لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار، ملك الصقالبة، إلى أمير المؤمنين المقتدر، يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدا، وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك" ..

قال: "وكان السفير له في ذلك نذير الحرمي، فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدي إليه، والإشراف على الفقهاء والمعلمين" ..

وكان رفقاؤه في الرحلة: نذير الحرمي وتكين التركي وبارس الصقلابي ..

وقد حقق رسالة ابن فضلان الدكتور سامي الدهان ونشرتها مديرية إحياء التراث والثقافة والإرشاد القومي السورية عام 1977 عن نسخة عثر عليها في مدينة مشهد الإيرانية عام 1924 ..

وقد نقل ياقوت الحموي في "معجم البلدان" أجزاء ومقاطع من رحلة ابن فضلان ..

وكان قد اكتشف جزء من المخطوط في روسيا عام 1817 .. ونشر باللغة الألمانية من قبل أكاديمية سانت بطرسبورغ في عام 1923 ..

والرحلة قد ظهرت باللغة العربية واللاتينية والألمانية والفرنسية والدانماركية والسويدية والإنكليزية ..

ومن جميع هذه النسخ قام الأستاذ النرويجي بير فراوس دولوس بجمع ما تناثر من الرسالة بلغات مختلفة ونقلها إلى اللغة النرويجية .. ثم ترجمها إلى الإنكليزية العالم الأمريكي ميخائيل كريكتون .. ومنها ترجمت مرة ثانية إلى اللغة العربية بتحقيق الدكتور حيدر غيبة ..

وذكر الدكتور محمد الأحمري في كتابه "أيام بين شيكاغو وباريس" أن هوليوود قامت بتمثيل قصة ابن فضلان ومغامراته مع أهل الشمال الأسكندنافيين ضد "وحوش الضباب" أو "أكلة الأموات" ..

وتجد في "الأعلام" للزركلي ترجمة موجزة لابن فضلان ..

ومما يذكره النقاد عن رحلة ابن فضلان أن النص العربي هو المتفق عليه .. أما زيادات كريكتون ففيها خلاف قوي .. ومما يذكره النقاد أيضا أن ابن فضلان كان صريحا .. وأحيانا ساذجا .. إلى حد إيراده ألفاظ نابية .. يتحرج كتاب اليوم من تردادها ..

سأذكر هنا بعض المقتطفات من الرحلة .. ولكن قبل ذلك انظر ما قاله كريكتون عن ابن فضلان ..

قال كريكتون: "لقد كان عرب بغداد مسلمين، وقفوا أنفسهم بشدة لهذا الدين. ولكنهم كانوا منفتحين على شعوب كانت تختلف عنهم في المظهر والمسلك والعقيدة. وفي الواقع، كان العرب في عالم ذلك الزمان أقل الشعوب إقليمية، وهذا ما جعلهم شهودا أفذاذا للثقافات الأجنبية" ..

قال ابن فضلان حين زار الجرجانية (جورجيا اليوم): "فأقمنا بالجرجانية أياما، وجمد نهر جيحون من أوله إلى آخره، وكان سمك الجمد سبعة عشر شبرا، وكانت الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه على الطرق وهو ثابت لا يتخلخل" ..

وقال: "وهم أوحش الناس كلاما وطبعا (أهل الجرجانية)، كلامهم أشبه شيء بصياح الزرازير، وبها قرية على يوم يقال لها أردكو، أهلها يقال لهم الكردلية، كلامهم أشبه شيء بنقيق الضفادع. وهم يتبرؤون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في دبر كل صلاة" ..

وقال: "وتطاول مقامنا بالجرجانية .. وكان طول مقامنا من جهة البرد وشدته .. ولقد كنت أدخل الحمام، فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج، كنت أدنيها من النار" ..

وقال حين مرّ بقبيلة الغزية من الأتراك: "فلما قطعنا الجبل أفضينا إلى قبيلة من الأتراك يعرفون بالغزية، وإذا هم بادية لهم بيوت شعر، يحلون ويرتحلون .. وإذا هم في شقاء، وهم مع ذلك كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئا .. وسمعتهم يقولون (لا إله إلا الله محمد رسول الله) تقربا بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين، لا اعتقادا لذلك. وإذا ظلم أحد منهم أو جرى عليه أمر يكرهه رفع رأسه إلى السماء وقال: "بير تنكري" وهو بالتركية "الله الواحد"" ..

وقال: "والترك كلهم ينتفون لحاهم إلا أسبلتهم. وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئا منها تحت ذقنه وعليه البوستين (المعطف)، فإذا رآه إنسان من بعد لا يشك أنه تيس" ..

ثم مرّ على البشناق .. فقال: "ثم صرنا بعد ذلك إلى البجناك، وإذا هم نزول على ماء شبيه بالبحر غير جار، وإذا هم سمر شديدو السمرة، وإذا هم محلقو اللحى، فقراء، خلاف الغزية" ..

ثم لما وصل إلى بلد الصقالبة .. القصد من الرحلة .. وكان ملكهم قد أسلم وهو الذي طلب من الخليفة المقتدر إرسال رسل إليه ليفقههوه ويعلموه شرائع الدين ..

جرت محادثة طويلة بين ملك الصقالبة وابن فضلان .. منها .. قال ملك الصقالبة ألمش بن يلطوار للترجمان: "قل له: تعلم أن الخليفة - أطال الله بقاءه – لو بعث إلي جيشا كان يقدر عليّ؟" قلت: "لا". قال: "فأمير خراسان؟" قلت: "لا". قال:" أليس لبعد المسافة وكثرة من بيننا من قبائل الكفار؟" قلت:"بلى". قال: "قل له فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه، وإني لخائف من مولاي أمير المؤمنين، وذلك أني أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو علي فأهلك بمكاني وهو في مملكته" ..

ثم قال عن الصقالبة: "وينزل الرجال والنساء إلى النهر فيغتسلون عراة لا يستتر بعضهم من بعض، ولا يزنون بوجه ولا سبب .. وما زلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك، ويقتلون السارق كما يقتلون الزاني" ..

وقال: "وقد أسلم على يدي رجل يقال له طالوت فأسميته عبد الله فقال: "أريد أن تسميني باسمك محمدا" ففعلت. وأسلمت امرأته وأمه وأولاده، فسموا كلهم محمدا، وعلمته (الحمد لله) و (قل هو الله أحد) فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة" ..

ثم زار الروسية (روسيا اليوم) ..

قال: "ورأيت الروسية، وقد وافوا في تجارتهم، ونزلوا على نهر إتل، فلم أر أتم أبدانا منهم كأنهم النخل، شقر حمر. لا يلبسون القراطق ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه .. ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه جميع ما ذكرنا" .. نهر إتل: هو نهر الفولغا اليوم ..

قال ابن فضلان عن الروس: "وهم أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط ولا بول. ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بإتل، وهو نهر كبير. ويبنون على شطه بيوتا كبارا من الخشب. ويجتمع في البيت الواحد العشرة والعشرون والأقل والأكثر، ولكل واحد سرير يجلس عليه، ومعهم الجواري الروقة (الجميلات) للتجار، فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه ... ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه (أنجسه). وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعه إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه، فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يمتخط ويبصق فيها، ولا يدع شيئا من القذر إلا فعله في ذلك الماء. فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي جانبه ففعل مثل فعل صاحبه .." ..

بعد ذلك تبدأ رواية كريكتون .. وهي انتقال ابن فضلان مع أحد القادة الروس لخوض حرب في بلد أهل الشمال (الدول الأسكندنافية) .. وقد مرّ في رحلته على السويد والدانمارك .. وكانت الحرب ضد "وحوش الضباب" أو "أكلة الأموات" .. وهم كالبشر .. رائحتهم كريهة .. يشبهون الخنازير .. ولا يهجمون إلا عند حلول الظلام ..

قال ابن فضلان: "أبحرنا لمدة يومين بمحاذاة شاطئ مسطح، تحيط به جزر كثيرة، تدعى أرض الدانس" قال الدكتور غيبة: الدانس، هي الكلمة التي استعملها ابن فضلان للتعبير عن كلمة Danes الإنكليزية أي الدانماركيين.

ثم قال عن الدانماركيين: "كانوا يغتسلون في النهر، ويتخلصون من نفاياتهم خارج الأبواب .. ومع ذلك، لم يكونوا حقا نظيفين، إلا بالمقارنة" يقصد مقارنة بقذارة الروس ..

ثم مرّ بمنطقة تريلبورغ .. قال الدكتور غيبة: وتقع تريلبورغ غرب جزيرة زيلاند التي تقع كوبنهاجن عاصمة الدانمارك في أقصى شرقها ..

ثم قال عن الدانماركيين أو الدانس: "ويتألف مجتمع تريلبورغ غالبا من الرجال، وجميع النساء من الجواري، ولا توجد زوجات بين النساء. وينال الرجال من يشاؤون من النساء بحرية وكيفما يشاؤون" ..

قلت: تأمل في تخلف الروس والدانماركيين وقتذاك!! ..

فاكس عاجل من (ابن عبد ربه) إلى كتاب (المنتديات) ..

لا شك أن دنيا الإنترنت .. وثورة الميديا .. أفرزتا لنا أشياء كثيرة جعلتنا نتصل ببعض في مشارق الأرض ومغاربها .. وحققت فعليا مقولة (العالم قرية واحدة) ..

من حسنات هذه الإنترنت .. المنتديات .. تلقفها العرب مباشرة .. وطاروا بها وتطوروا فيها في وقت قصير .. واشتهرت بعض هذه المنتديات .. كمنتدى الساحات مثلا .. وهو الأول عربيا .. ووصل عدد الكتاب فيه إلى ثمانين ألف كاتب ثم توقف التسجيل .. إلا بالواسطة .. وغيره الكثير من المنتديات .. لكل منتدى نكهته وطابعه خاص .. وله رواده وزبائنه .. ولو كان هناك أحيانا تقارب في الأهداف والطرح والإشراف ..

هناك كتاب ممتازون مروا على المنتديات .. منهم من ارتحل عنها وانخرط في دوامة الحياة .. ومنهم من بقي يقاتل .. ومنهم من لحق بها بعدُ .. وهكذا ..

التطلع إلى الكمال صفة حميدة .. وادعاء الكمال خلة ذميمة .. ولتحقيق الأول خصوصا في مجال الكتابة .. وجدتُ أن حركة الكتابة وتباري الكتاب موجود من قديم .. قد أطال في بيانه وتبويبه وتفريعه ابن عبد ربه الأندلسي في "العقد الفريد" .. ولو كانت أيامهم الإنترنت ومقاهي الإنترنت مفتوحة .. لما لقينا من يسمح لنا أن نزاحمهم أو أن نخط سوداء في بيضاء معهم .. ولكن .. خلا لك الجو فبيضي واصفري .. ونقري مـا شئت أن تنقري ..

قبل أن نجتهد في رسم ملامح الكاتب أرى أنه يجب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون .. فلنسمع ونع ما كتبوه عن صفة الكاتب وأبواب أخرى متعلقة بفن الكتابة .. كلها مأخوذة من "العقد الفريد" نقلا عن موقع "الوراق" ..

فدونكم هذه المقتطفات:

[صفة الكتّاب]

قال إبراهيم بن محمد الشيباني: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهازم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل، وحسن الإشارة، وملاحة الزي، حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.

وقال إبراهيم بن محمد الكاتب: من كمال آل الكتابة أن يكون الكاتب: نقي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسالك، ومستقر التركيب؛ ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة.

قال الشاعر:
عليك بكاتب لبـق رشـيقِ **** زكي في شمائله حـرارة
تناجيه بطرفك من بـعـيدٍ **** فيفهم رجع لحظك بالإشارة

ونظر أحمد بن الخصيب إلى رجل من الكتاب؛ فدم المنظر، مضطرب الخَلق، طويل العثنون، فقال: لأن يكون هذا فنطاس مركب أشبه من أن يكون كاتبا.

فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال، وانتظمت فيه هذه الخصال، فهو الكاتب البليغ، والأديب النحرير، وإن قصرت به آلة من هذه الآلات، وقعدت به أداة كل هذه الأدوات، فهو منقوص الجمال، منكسف الحس، منحوس النصيب.

[ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه]
قال إبراهيم الشيباني: أول ذلك حسن الخط الذي هو لسان اليد - قلت: كفتناه الكيبورد -، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور.

ولست أجد لحسن الخط حدا أقف عليه أكثر من قول علي بن ربن، النصراني الكاتب، فإني سألته واستوصفته الخط، فقال: أعلمك الخط في كلمة واحدة، فقلت له: تفضل بذلك فقال: لا تكتب حرفا حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف، وتجعل في نفسك إنك تكتب غيره حتى تعجز عنه، ثم تنتقل، إلى ما بعده ... ولا يكون الكاتب كاتبا حتى لا يستطيع أحد تأخير أول كتابه وتقديم آخره.

وأفضل الكتاب ما كان في أول كتابته دليل على حاجته، كما أن أفضل الأبيات ما دل أول البيت على قافيته.

فلا تطيلن صدر كتابك إطالة تخرجه عن حده، ولا تقصر به دون حده، فإنهم قد كرهوا في الجملة أن تزيد صدور كتب الملوك على سطرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك.

وقيل للشعبي: أي شيء تعرف به عقل الرجل؟ قال: إذا كتب فأجاد. وقال الحسن بن وهب: الكاتب نفس واحدة تجزأت في أبدان متفرقة.

فأما الكاتب المستحق اسم الكتابة، والبليغ المحكوم له بالبلاغة، من إذا حاول صيغة كتاب سالت عن قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت من معادنها، وبدرت من مواطنها، من غير استكراه ولا اغتصاب.

بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة، فاستعد مدة ثم علق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردة عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها ... فإن كان لا بد لك من طلب أدوات الكتابة فتصفح من رسائل المتقدمين ما يعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما يرجع إليه، ومن نوادر الكلام ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسمار ما يتسع به منطقك، ويطول به قلمك، وانظر في كتب المقامات والخطب، ومجاوبة العرب، ومعاني العجم، وحدود المنطق، وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وسيرهم ووقائعهم ومكايدهم في حروبهم، والوثائق والصور وكتب السجلات والأمانات، وقرض الشعر الجيد، وعلم العروض، بعد أن تكون متوسطا في علم النحو والغريب، لتكون ماهرا تنتزع آي القرآن في مواضعها، والأمثال في أماكنها، فإن تضمين المثل السائر، والبيت الغابر البارع، مما يزين كتابك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر، فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء عيب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له، فإن ذلك يزيد في أبهته.

[فضائل الكتابة]
قال أبو عثمان الجاحظ: ما رأيت قوما أنفذ طريقة في الأدب من هؤلاء الكتاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا. وقال بعض المهالبة لبنيه: تزيوا بزي الكتاب فإنهم جمعوا أدب الملوك وتواضع السوقة. وعتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكتاب فأمر بحبسهم، فرفعوا إليه رقعة ليس فيها إلا هذا البيت:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا **** فهبنا للكرام الكاتبينـا
فعفا عنهم وأمر بتخلية سبيلهم.

وقال المؤيد: كتاب الملوك عيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة. والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة جليلة تحتاج إلى آلات كثيرة.

وقال سهل بن هارون: الكتابة، أول زينة الدنيا التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة.


[ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها]
قال إبراهيم بن محمد الشيباني: إذا احتجت إلى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والخطباء والأدباء والشعراء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلا على قدر أبهته وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وفطنته وانتباهه. واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام؛ منها: الطبقات العلية أربع، والطبقات الآخر، وهي دونها، أربع؛ لكل طبقة منها درجة، ولكل قسمها، لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها ويقلب معناها إلى غيرها ... ا.هــ.

المتشاوف والعداد والجراف والمجنح والمزبد والشطرنجي والبهات واللتات ..

وقال الأبشيهي في المستطرف - وهو نقلٌ مستطرف -:

[ باب في الطعام وآدابه والضيافة وآداب المضيف وأخبار الأكلة وما جاء عنهم وغير ذلك]

.. ومما يعاب على الضيف أمور منها كثرة الأكل المفرط، إلا أن يكون بدوياً، فإنها عادته. ومنها أن يتتبع طريق الشرهين كمن يتخذ معه خريطة مشمعة يقلب فيها الزبادي والأمراق والحلوى وغير ذلك، ومنها أن يأخذ معه ولده الصغير ويعلمه أن يبكي وقت الانصراف من الطعام ليعطى على اسم ولده الصغير، ومنها قبح المؤاكلة، وقد عد فيها عيوب كثيرة، فمنها: المتشاوف والعداد والجراف والرشاف والنفاض والقراض والبهات واللتات والعوام والقسام والمخلل والمزبد والمرنخ والمرشش والمفتش والمنشف والملبب والصباغ والنفاخ والحامي والمجنح والشطرنجي والمهندس والمتمني والفضولي.
فأما المتشاوف: فهو الذي يستحكم جوعه قبل فراغ الطعام، فلا تراه إلا متطلعاً لناحية الباب يظن أن ما دخل هو الطعام. وأما العداد، فهو الذي يستغرق في عد الزبادي ويعد على أصابعه، ويشير إليها، وينسى نفسه.

والجراف: هو الذي يجعل اللقم في جانب الزبدية ويجرف بها إلى الجانب الآخر. والرشاف: هو الذي يجعل اللقمة في فيه ويرتشفها، فيسمع لها حين البلع حس لا يخفى على جلسائه، وهو يلتذ بذلك. والنفاض: هو الذي يجعل اللقمة في فيه وينفض أصابعه في الزبدية. والقراض: هو الذي يقرض اللقمة بأطراف أسنانه حتى يهذبها ويضعها في الطعام بعد ذلك.


والبهات: هو الذي يبهت في وجوه الآكلين حتى يبهتهم، ويأخذ اللحم من بين أيديهم. واللتات: هو الذي يلت اللقمة بأطراف أصابعه قبل وضعها في الطعام. والعوام: هو الذي يميل ذراعيه يمنة ويسرة لأخذ الزبادي. والقسام: هو الذي يأكل نصف اللقمة ويعيد باقيها في الطعام من فيه. والمخلل: هو الذي يخلل أسنانه بأظفاره، والمزبد: هو الذي يحمل معه الطعام. والمرنخ: هو الذي يرنخ اللقمة في الأمراق، فلا يبلع الأولى حتى تلين الثانية. والمرشش: هو الذي يفسخ الدجاج بغير خبرة فيرش على منى مؤاكليه.

والمفتش: هو الذي يفتش على اللحم بأصابعه. والمنشف: هو الذي ينشف يديه من الدهن باللقم ثم يأكلها. والملبب: هو الذي يملأ الطعام لباباً. والصباغ: هو الذي ينقل الطعام من زبدية إلى زبدية ليبرده. والنفاخ: هو الذي ينفخ في الطعام. والحاسي: هو الذي يجعل اللحم بين يديه فيحميه من مؤاكليه. والمجنح: هو الذي يزاحم مؤاكليه بجناحيه حتى يفسح له في المجلس، فلا يشق عليه الأكل.

والشطرنجي: هو الذي يرفع زبدية ويضع زبدية أخرى مكانها. والمهندس: هو الذي يقول لمن يضع الزبادي ضع هذه هنا وهذه ههنا، حتى يأتي قدامه ما يحب. والمتمني: هو الذي يقول: ليتني لم يكن معي من يأكل.

والفضولي: هو الذي يقول لصاحب المنزل عند فراغ الطعام، إن كان قد بقي عندك في القدور شيء، فاطعم الناس، فإن فيهم من لم يأكل.

ومن الأضياف من لا يلذ له حديث إلا وقت غسل يديه، فيبقى الغلام واقفاً والإبريق في يده والناس ينتظرونه.

ومنهم من يغسل يديه بالاشنان مرة واحدة، فإذا اجتمع الوسخ والزفر تسوك بهما. ومنهم من يدخل الدار فيبتدىء بالهندسة أولاً، فيقول: كان ينبغي أن يكون باب المجلس من ههنا، والإيوان كان ينبغي أن يكون من ههنا، وينتقل من الهندسة إلى ترتيب المجلس، فينقل الفاكهة من موضعها إلى موضع آخر، وإن كان قد استحكم جوعه استعفى من الطعام، وذهل عن بقية الأضياف وشدة جوعهم. ومنهم من يخرج فيطوف على أصدقاء صاحب الدعوة، فيتألم عن انقطاعهم ويستوحش من غيبتهم ويسلطهم على عرض صاحبهم.

ولقد حكي عن مغن غير مجيد أنه لم يبطل ولا ليلة واحدة، وما ذاك إلا أنه كان إذا سئل أين كنت قال: كنت عند الناس، وإذا قيل له: أين أكلت؟ قال: أكلت في بطني، وإذا قيل له: أين شربت؟ قال: شربت في فمي. ومنهم من يفهم عن صاحب الدعوة أنه يقول لغلامه: اشتر كذا، فيقول: والله العظيم أو الطلاق الثلاث يلزمه ما يشتري شيئاً فأفوقه، فيعجز صاحب المنزل ويخجله إذا لم يكن في بيته شيء موجود، وليت شعري إذا كان لا يأكل فلأي شيء حضر. ومنهم من يرى صاحب البيت قد أسر إلى صديقه شيئاً، فيقول: ما الذي قال المولى لصاحبنا، وهو لا يريد أن يعلمه، ومنهم من يستعجل صاحب المنزل بالأكل ويشكو الجوع ويظن أن ذلك بسط مكارم أخلاق، وإنما ذلك يكون في بيته لا في بيوت الناس. ومنهم من يقول لصاحب الدعوة: من يغني لنا، فيقول: فلان، فيقول له: غلطت لم لا دعوت فلاناً، ومنهم من يسأل صاحب البيت، كيف قوته في النكاح، فيقول له: أنا رجل كبير قد ضعفت قوتي وشهوتي، أو يقول: ما لي قوة طائلة في ذلك، فيقول: أنا
والله كلما مر علي عام تزايدت شهوتي وكثر لهذا الفن تشوفي، ويعلن بذلك حتى تسمعه صاحبة البيت.

ومنهم من يشكو حاله مع أهل بيته ويذكر نفقته عليهن وكسوته لهن وكثرة إنعامه وإحسانه إليهن، وما عليه زوجته من سوء الأخلاق وكبر النفس، لتستقل زوجة صاحب البيت ما هي فيه مع زوجها، وربما كان ذلك سبباً لفراقها منه، ومنهم من تعجبه نفسه ويستحسن لباسه، ويستطيب رائحته، وإذا سمع الغناء تواجد، وأظهر الطرب، وحرك رأسه، ويقوم قائماً يتمايل حتى يرى أهل الرجل أنه لطيف الشكل بديع الحركات، ويظن في نفسه أنه يعشق وأن رسول صاحبة البيت لا يبطىء عنه، ومنهم من يقال له: العب الشطرنج، فيأباه ويشتغل بالدندنة، فيقع في الفضول ومنهم من يتأمر على غلمان صاحب البيت ويهين أولاده، ويظن أنه يدل عليهم، ومنهم من يقول له صاحب البيت: كل، فيقول: ما آكل إلا أنا ورفيقي. ومنهم من يسمع السائل على الباب، فيتصدق عليه من مال صاحب البيت بغير إذنه أو يقول للسائل: فتح الله عليك، ومنهم من يدعو الناس لصاحب الوليمة بغير إذنه ويقلده بذلك المنن وأكثر الناس واقع في ذلك.


نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا بمنه وكرمه إنه جواد كريم رؤوف رحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.ا.هـ.

الأقصى ..

هل حان لمسجدنا يُفتح؟ **** هل حُقَّ لقلبي أن يفرَح؟!

أَبَدَى خيطُ الفجر الأبيض **** يمحو هذا الليل الأكلَح؟

هل قامت شوكة إسلامٍ؟ **** هل قد شُحِذ السيف الأملَح؟

هل صفَّ جنودُ الله معاً **** نذراً ليهوذا أن يُذبَح؟

في الأفْق أرى بشرى نصرٍ **** وجيوش محمد لن تُكبَح

يا أبناء زماني هل ند **** ركُ ملحمةً فيها المربح؟!

فيها تُشفى نفس المؤمن **** ونرى دمهم فيها يُسفَح

يا مسلم خذ مني نصحاً **** لا تيأس! بل ابشر وافرَح!

اعدد جسداً .. عبئ نَبلاً .. **** ابري قوساً .. واخلص تنجَح

إن تدرك ذاك اليوم فهـ **** ــذي تهنئتي إن لم تجمَح

السبت، 14 أغسطس 2010

ذكرى علي عبد الله جابر .. وأشجان من الماضي ..

رحمة الله عليك يا علي جابر .. أمسِ .. حين سمعتُ صوتك يصدحُ من الراد .. غضا طريا .. فكأن قد أصيبت مقاتلي .. ورجعتُ إلى السنين الخوالي .. فذكرتُ زمانا مضى وعمرا قد انقضى ..

بكيتُ تلك الأيام .. وذلكم الإمام .. سرحتُ في خيالي .. وغصت في أعماقي .. وأشجتني التراويح ورمضان وعلي جابر ..

بدأ شريط الماضي يدور أمامي سريعا .. والزمان يعود إلى الوراء .. والشجى يبعث الشجى .. حتى فتحت أمامي بوابة الماضي على مصراعيها ..

آه .. من يكابر ويزعم أن ذلك الماضي لم يكن جميلا وتلك الأيام لم تكن سعيدة فلا تكلمه ولا تلتفت إليه ولا تحفل به! ..

تلك الترنمات الروحانية والفيوض الربانية التي لامست سمعي .. غيبتني في غياهب الماضي البريء والسنيّات الحلوة .. أيام شرخ الشباب .. وفتوة الشباب .. وعرامة الشباب .. أيام كنتُ أعد خطة لتغيير العالم .. وأرسم خارطة جديدة للكرة الأرضية .. أيام كان الطموح ليس له حدود .. والخيال ليس عليه قيود ..

تلك السنين التي أمضيتُ من عمري **** أيام روض الصبا غضّ الرياحينِ ..

لتوه كان قد اخضرّ عذاري .. وطرّ شاربي .. كنا نقعد في الحرم .. أو نجول في رحبات البيت .. ننتظر التراويح من ذاك الإمام .. عليه من الله شآبيب الرحمة والرضوان ..

يبدأ علي جابر القراءة .. فيرتج المسجد الحرام من براعة الصوت وحكر المقام .. يقرأ ويرتل بصوته الندي الشجي .. فتطمئن القلوب .. وتسكن النفوس .. وتخشع الأبصار ..

حتى إذا بلغ الغاية في التهدّج والتهجد .. والترسّل والتغني .. والتحليق بالمصلين إلى السماء .. والصعود بهم إلى الفلك الأعلى .. حينها .. ترى شيئا لا يدركه العقل ولا يبلغه الوصف .. ولا يبقى إلا الإخبات لرب البريات ..

كان الحرم يومذاك يمتلأ بالمصلين .. لكن ليس كاكتظاظه في السنوات الأخيرات .. كنا إن سمعنا بعالم أو شيخ أو معتنٍ بأمر الدين والملة .. نسارع ونُسرّ بالجلوس إليه ..

أذكر مرة .. سمعنا أن الشيخ محمد عيد عباسي .. وهو من أهل الشام .. ومن مقدمي تلاميذ الشيخ ناصر الدين الألباني .. رحمه الله .. ممن أمضى سبعة عشر عاما في حبوس حاكمها الباطني .. سمعنا أنه في حلقة في سطح الحرم .. فقصدناه .. وقعدنا في الحلقة .. كانت علائم الإيمان مرتسمة في محيا الشيخ .. وملامح الخشوع بادية فيه .. لم يرد الشيخ أن يبتدرنا بوعظ أو كلام .. فألح عليه أحدهم .. فروى لنا حديث أبي أمامة الباهلي عند أحمد وغيره: كنا في جنازة رجل من الأنصار والقبر لما يلحد فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصاه فقال: إن العبدَ المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ..

لم يطل في الشرح بل سرد الحديث سردا .. وعلق عليه بأيسر تعليق .. فكانت من أوقع المواعظ في النفس .. وأرسخها في الذهن .. فيا لها من موعظة .. وياله من مكان .. وياله من زمان .. وصدق عمر بن ذر حين قال: ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى ..

في أكناف مجلس الشيخ الشنقيطي ..

أمّا قبل .. فهو درسٌ مبارك .. يعزّ أن تجد مثاله في زمانٍ من الأزمنة ..

حين تلجُ من باب مسجد الملك سعود بالشرفية .. أول ما تعانق وجهك نسمات هواء باردة منعشة .. تتنسم فيها رائحة العود والعطر والإيمان .. سر بضع خطوات! ترَ صوبك جماعة من المسبوقين يبتدرون السواري يصلّون تحية المسجد .. فإن مضيت إلى القدّام ستلقى حلقة عظيمة في محراب المسجد .. تتسع حتى تملأ الرحبة الوسطى .. وتصل في الموسم إلى طرف الرواق الممتد بين البابين العظيمين! .. هناك في تلك الحلقة .. ستجد شببة متقاربين .. وجوههم لألاءة .. أكنافهم موطأة .. كأنهم الولدان المخلدون .. مستقبلي كرسي الشيخ .. ينتظرون قعوده على كرسي التحديث .. قد أحضروا كراريسهم ومحابرهم .. يدونون علم الشيخ وفرائده ونكاته ..

يدخل الشيخ من بهو المسجد .. من الباب الصغير الأيمن للناظر تجاه القبلة .. يركع ركعتين خفيفتين .. فإذا انفتل من صلاته سار إلى مقعده .. وسلم على الناس تسليما خافتا لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان .. فيرد الأدنون من الشيخ السلام .. فيسمعهم من وراءهم فيردون السلام .. ويسمعهم من وراءهم فيردون .. وهكذا حتى آخر رجل في الحلقة ..

إن فزت يوما بالحضور .. سترى الشيخ يرتدي عباءة داكنة غليظة الحاشية .. وغترة بيضاء صقيلة .. تحتها كوفية سميكة تبرق بياضا .. لباسٌ بذّ .. لكنه بالغ النظافة .. حسن الكي .. ولا أبالغ إن قلت أن لباس الشيخ أنظف وأنصع لباس في المسجد ..

هناك مشهدٌ آخر من العجب العاجب .. فعند انقضاء صلاة العشاء .. يتطاير جماعة من الطلاب ويحفون بالشيخ في لمح البصر .. أحسب أنه قبل أن يتم تسليمته الثانية .. غالبهم من الناشئة ومحبي أهل العلم والفضل .. ترى الشيخ يترفق بهم ويلين لهم الكلام ويجالسهم ساعة ثم يقوم .. وهم من حوله مكتنفوه ومشيعوه .. يمشي الشيخ يجيب سائلا ويحل معضلة وينصح ويرشد حتى يخرج من باب المسجد .. والموكب ماضٍ في ملازمته .. هناك تبدأ الأسئلة الخاصة .. فيشير الشيخ إلى مشيعيه أن تجافوا قليلا .. فيمتثلون .. يسأله السائل في أذنه فيرد الشيخ عليه في أذنه .. احتراما ورعاية لخصوصية الموضوع .. وهكذا حتى يضع الشيخ قدمه في السيارة ويبقي الأخرى خارجا وهو أثناء ذلك يملي جوابا أو يبذل نصيحة .. ثم يدخل سيارته وينطلق ..

من ستة عشر عاما وهذا دأب الشيخ .. وهذا المشهد لا ينخرم ولا يتبدل ..

إن عرّج بك السيرُ يوم الأربعاء إلى جدة فلا تفوّت عليك الانغماس في قطعة الفردوس هذه! .. ستدرك بعد ذلك حقا أن "جدة غير"! ..

الجمعة، 13 أغسطس 2010

استفزاز ..

وهذه القصة مما تناقلها الأدباء والإخباريون في كتبهم ..

وهي بحق تطبيق عملي من معن بن زائدة الأمير لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب! .. فردد مرارا قال: لا تغضب! ..

قال الراوي: تراهن جماعة على مائة ناقة لمن يُغضب (معن بن زائدة) ويخرجه عن حلمه .. فانطلق أحدهم ودخل المجلس ولم يسلم وقال لمعن بن زائدة وكان يومئذ واليا:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة **** وإذ نعلاك من جلد البعير؟!

فقال معن: أذكره ولا أنساه والحمد لله ..

فقال الرجل:

فسبحان الذي أعطاك ملكا **** وعلمك الجلوس على السرير!

فقال معن: له الحمد والشكر على ما أعطى ..

فقال الرجل:

فلستُ مسلما ما عشتُ دهرا **** على معن بتسليم الأمير

فقال معن: السلام خير و لن أُضر إن لم تسلم ..

فقال الرجل:

سأرحلُ عن بلاد أنت فيها **** ولو جار الزمان على الفقير

فقال معن: إن جاورتنا فمرحبا وإن رحلت فبالسلامة ..

فقال الرجل:

فجد لي يا ابن ناقصة بمال **** فإني قد عزمت على المسير

فأعطاه معن ألفا ..

فقال الرجل:

قليلٌ ما أتيتَ به وإني **** لأطمع منك في المال الكثير

فأعطاه ألفا أخرى ..

فقال الرجل:

فثنّ فقد أتاك الملك عفوا **** بلا عقل و لا رأي منير

فقال: أعطوه ألفين .. وقال: هل هدأ بالك يا أخا العرب؟!

فبكى وقال:

سألتُ الله أن يبقيك دهرا **** فما لك بالبرية من نظير

فمنك الجود والإفضال حقا **** وفيض يديك كالبحر الغزير

فقال معن: أعطيناه أربعة على ذمة فأعطوه أربعة على مدحه .. ثم اعتذر الرجل وقص عليه القصة وقال: خسرتُ أيها الأمير مائة ناقة .. فأمر له بالمائة لأصحاب الرهان وله بمائة غيرها ..

-تمت-

"تضييع العمر والأيام في اصطناع المعروف للئام"

موضوع المقالة هو بذاته عنوان كتاب أو "جزء حديثي" - يعني أحد كتب الحديث كالبخاري ومسلم - ألّفه الحافظ أبو موسى المديني ..

لقد أصاب الحافظ أبو موسى أيما إصابة .. وسُدد أيما سداد .. في اختيار العنوان الجميل الأخاذ البراق .. لظاهرة كونية انتشرت في كوكب الأرض .. مذ قتل قابيل هابيل .. حتى عام 2009 م .. حاول علماؤنا التصدي لها .. وخلصوا بنتيجة .. وتوصلوا لحقيقة .. أن اللئيم لئيم .. ولن يستقيم الظل والعود أعوج .. و:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه **** فكل رداء يرتديه جميلُ ..
فلا تضيع عمرك في اصطناع معروف ولا إسداء عون للئيم .. بل خير الخيارات أمامك "المتاركة" .. كما نصح بذلك ابن حزم الأندلسي في "مداواة النفوس" ..

أقصد باللئيم الذي تبسطت معه وأسديت له معروفا وأمنت جانبه .. ثم تفاجأ بأنه "أكّلك خابور" .. لا أقصد الذي أحسنت إليه .. ثم تنكر صنيعك له .. فهذا نعم الصديق في زماننا ..

رجاء لا تمتلئوا بالسوداوية .. فقط هي حالة عابرة فلا تحفلوا بها ..
وإلا فالدنيا ملأى بإخوان الصدق والظرفاء والفضلاء ..

الخميس، 12 أغسطس 2010

ومن الحب ما قتل .. "حليمة الصومالية" ..


ما أحلى الوصل وأعذبه *** لولا الأيام تنكدهُ ..

رحم الله "حليمة"! ..

الحب الحق لا الزائف .. المشاعر الصادقة لا الكاذبة .. القلوب الرهيفة لا القاسية .. هناك في "حي الدقيق" ..


قصة .. أحلى من روايات الغرام .. وأصدق من أفلام هوليوود .. وأمتع من المسلسلات التركية .. بطلتها حليمة الصومالية .. لا نور التركية ..

الحب الصادق .. ولا أبلغ من الصدق! .. تجده في كوخ الصعلوك لا في قصر الشريف .. في المساكن العشوائية لا في الأحياء المخملية .. في دهماء الناس لا في أبناء الذوات ..

ما ألذ الحب! .. ما أحلى الوصل وأعذبه! ..

أحقٌ ما قاله نزار:
الحبُ في الدنيا بعضٌ من تخيلنا **** لو لم نجده عليها لاخترعناهُ ..؟

قال ابن القيم: "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريبٍ من ثمانين رجلا ليس فيهم إلا قُرشي، والله ما رأيتُ صفحة وجوه قط أحسن من وجوههم يومئذ! قال: فذكروا النساء فتحدثوا فيهنّ وتحدثتُ معهم حتى أحببت أن نسكت، قالوا: ولولا لطافة الحب ولذته ما تمناه المتمنون"

قلتُ معهم: ولولا لطافة الحب ولذته ما تمناه المتمنون ..

نسيت أن أقول لكم .. أن مكان الحادثة "حي الدقيق" .. أحد الأحياء البائسة القابعة في جنوب جدة .. الزمان: قبل أشهر من الآن ..

دعوكم من هرطقات الخواجات .. "آلام فرتر" لجوته .. "آنا كارنينا" لتولستوي .. كلها كذبٌ وهراء .. وتشبع من بني الأصفر بأنهم يحتكرون الأحاسيس الجياشة والمشاعر الفياضة .. لكن برهن الصوماليون تلك الأحاسيس والمشاعر بالفعال لا بالأقوال .. واقعا لا تمثيلا .. معاينة لا إخبارا ..

تجد الخبر في جريدة عكاظ هنا:
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070606/Con20070606116167.htm?kw=

قد أخطأت حليمة بقتلها لنفسها .. لكن ساعد غير رحيم غير رحيم .. والدليل .. عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثَ سرية، فغنموا، وفيهم رجلٌ فقال: إني لستُ منهم، عشقتُ امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم، فنظروا، فإذا امرأة طويلةٌ أدْماء، فقال لها: اسلمي حُبيش قبل نفاد العيش:
أرأيتِ لو تبعتكم فلحقتكم *** بحليةٍ أو ألفيتُكم بالخوانقِ
أما كان حقا أن ينوَّلَ عاشقٌ *** تكلّف إدلاج السرى والودائقِ؟!
قالت: نعم، فديتك، فقدَّموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه، فشهِقت شهقة أو شهقتين، ثم ماتت، فلما قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما كان فيكم رجلٌ رحيم؟!" رواه النسائيُ وحسّنه الألباني ..

الأربعاء، 11 أغسطس 2010

التطور الاستراتيجي لدى الحجات في رحلات جمع علب البيبسي ..

انتشرت في جدة من خمس سنوات تقريبا جماعات من الحجات الأفريقيات يجبن الشوارع والطرقات .. يمتهنّ لقط علب البيبسي الفارغة .. لا همّ لهن إلا ذلك ..

يخرجن من أكنانهن مع طلوع الفجر الصادق .. متلفعاتٍ بمروطهن .. لا يُعرفن من الغلس .. يمشين في مناكب الأرض جذلاتٍ ممتلئات بالحيوية والتفاؤل والجمال .. جمال الروح وطهر النفس .. والصفاء والنقاء ..


قال عمرو بن كلثوم واصفا نساء بني تغلب:
ظعائنَ من بني جُشَم بن بكرٍ **** خلطنَ بميسمٍ حسبا ودينا ..
هؤلاء الحجات أجدر أن يقال لهن:
ظعائن من بني (شادٍ ونيجر) **** خلطن بميسمٍ حسبا ودينا ..

كلما غدوتُ بسيارتي بكرةً أو رحتُ بها عشية تأملتُ في همة تلكم النسوة لعلي أفهمُ معنىً جديدا للحياة .. أو أدركُ ما لم أدرك كنهه بعدُ من أسرار الحياة ..

سعيهن وتشميرهن يمثّل "المعنى الإجمالي" لما درسناه ولم نعه من الألفاظ النبيلة المبثوثة في كتب الأخلاق والتهذيب والسلوك ..

أول ما ابتدأن كنا يبكّرنَ بكراتين فارغة ويرحنَ بها حفّل بالعلب .. كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا .. أقمن على ذلك برهة من الدهر ثم بدا لهن أن يستبدلن الكراتين بأخياش بلاستيكية .. أخف محملا وأكثر استيعابا .. ويمكن التزود منهاب باثنين أو ثلاثة للاحتياط .. تُربط في الظهر أو حول الخصر وتستخدم حال انشقاق الخيشة الأولى أو امتلائها .. أو ربما لإسعاف إحدى رفيقات الدرب ..!

بعد ذلك .. تفتقت أذهان أذكياء الحجات عن فكرة عجيبة .. تنجـز المهمة وتخفف العبء .. وذلك باتخاذ عربات كعربات الأطفال أو التي يدفعها أبناء الأغنياء أمامهم في سوبر ماركت الدانوب أو الصواري طلبا لمتعة وسهولة التسوق! .. فسَرَت الفكرة في سائرهن .. وانتشرت العربات في الأزقة والحواري والطرقات والكباري .. مع تمسك بعض نساء الجيل الأول بالأخياش والخرايط ..

وحينما نقلت "أمانة مدينة جدة" النظافة لشركة دلة .. وضعت الأخيرة حاويات كبيرة جدا .. يعز معها جمع العلب التي في باطنها .. خصوصا إن كانت مندسة في القاع أو عالقة بمتاع .. فابتغين أعواد حديدية أشبه العصا .. معقوفة الرأس .. يمكنها انتشال العلبة من فيها .. ويبدو أنهن صنعنها من علّاقات الملابس لمرونتها وتوفرها ..

ولهن أيضا في العصا منافع أخرى .. من ذلك أن تلك السيدات شعرن أن كثرة الانحناء والانثناء لجمع العلب الملقاة على الأرض يرهق الجسم خصوصا العمود الفقري .. ولكن تلك العصا السحرية تمكنهنّ من التقاط العلب وهن سائرات ..

مع ازدياد التجارب والجولات اليومية .. عملن دراسة لتطوير العمل فقمن بجمع البيانات ورصدها في جداول وتمثيلها بالرسم البياني .. وبعد قراءة المنحنيات استنتجن أن ساعات الذروة لامتلاء الحاويات والطرقات بعلب البيبسي تتراوح من السابعة مساءا حتى الثانية صباحا .. ومن العاشرة صباحا حتى الثالثة ظهرا .. إلا أن الفترة الثانية أقل ..

فانقسمن إلى جماعتين أو نوبتين .. للعمل في ساعات الذروة فقط وذلك لتحصيل أكثر كمية في أقل جهد ..
لا شك أن المستفيد الأول من تجميع العلب مصانع الألمنيوم بالمنطقة الصناعية لتدوير انتاج عبوات البيبسي وبالتالي بيعها لشركات إنتاج المشروبات الغازية .. ذلك أنه لصعوبة وقلة جدوى استخراج خام الألمنيوم من موارده الطبيعية وجدت الشركات في تلك العلب توفيرا وربحا لم تحلم به! ..

على أن بعض كتبة الأعمدة في الجرائد اليومية – لا أود تسميته – كتب متجلببا بالوطنية ينقد ظاهرة الحجات ويزعم الشرير أن هذا منظر غير حضاري ومضر بسمعة البلد ..

وأقول له: هيّ جات على هذي يا بو الشباب .. قيدها يا دوبك الكفاف! .. ما وجدتَ إلا من يقتات بأوساخ الناس لتحرمه قوته .. !!

هن بحق نساء فاضلات عظيمات ومستحقات جائزة نوبل لجمع العلب ..

الاثنين، 9 أغسطس 2010

إمام يأكل رأس أحد المأمومين!! ..

ومما حدثنا أبو صالح .. وهو رجلٌ اكتسى بالظرافة من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه .. رشيق الروح .. حاضر النكتة .. إن تكلم فلا تملّ حديثه .. وإن روى فلا تسأم نوادره .. ما جالسه أحد إلا شهق من الضحك ومات من الكركرة .. وفوق ذلك .. أوتي ثقافة وأدبا ودراية بأحوال النفس ودواخلها .. كأنما هو منحة الربّ لذويه وخلانه .. يبدد أتراحهم .. وينعش أرواحهم ..

قال أبو صالح: لي صديقٌ .. من أبناء الطبقة المسحوقة .. مستور الحال .. وبائس الحال أيضا .. ممن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء .. وممن يجهلهم أهل الأرض ويعرفهم أهل السماء .. ممن يكدح لنيل القوت .. ويكافح كي لا يموت .. ممن أمضّهم الفقر الهالك .. وعضّهم الجوع الكافر ..

لم يكرمه أحد .. ولم يعبأ به إنسان .. فما عادت تهمه المنزلة والرفعة في الناس .. ما عاد يهمه إلا الخبز والملح .. الاجتماع أو المحفل الوحيد الذي يُدعى إليه ويشارك فيه هو صلاة الجماعة .. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..

كان يحافظ على صلاة الجماعة حاضرة في المسجد .. وفي رمضان تلقاه من السابقين الأولين إلى الصف الأول في الفرائض والنوافل .. لا يبتغي إلا الله ولا يرغب إلا رضاه .. لم يعطه أحد من أهل الدنيا مالا ولا جاها ولا وجها .. فقرر أن ييمّم وجهه شطر من يجبر القلوب .. ويزيل الهموم .. من لا تسعد النفوس إلا بمناجاته .. ولا تشقى القلوب إلا بمجافاته .. من يده ملأى لا تغيضها نفقة .. سحاء الليل والنهار .. لو أعطى كل إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ..

قال المسكين: في العشر الأخيرة من رمضان .. وبعد إحدى النوافل .. كنتُ في الصف على مقربة من الإمام .. فجاء أحد الموسرين ممن فتح الله عليه .. وممن يراعي حق الله في المال .. فجلس إلى الإمام وشرع يكلمه ..

قال المسكين: وكان حديثهما يقع في مسمعي دون تعنّ مني أو استيفاز .. فسمعت الموسر يذكر أنه يريد إخراج زكاة ماله .. وذكر مبلغا كبيرا من المال وناوله الإمام .. سائلا إياه أن يتولى تفريقه في المساكين ..

لما سمع المسكين ذلك .. تهلل وجه .. وانفرجت أساريره .. وكاد يغشى عليه .. ولا لوم عليه ولا تثريب .. وهو من أهلها بنصّ القرآن .. وقد دنت منه .. وإذا هبت رياحك فاغتنمها ..

قال المسكين: فما برحتُ المسجدَ في نافلة ولا فريضة ولا تراويح ولا قيام .. منتظرا نصيبي من تلك الزكاة .. وما كبّر الإمام إلا وأنا خلفه .. ممنيا نفسي العطاء الوفير بعد الصلاة .. لكني وجدت الإمام يتأخر في قسمة المال .. ما ينفتل من صلاته إلا ويمضي إلى داره من حينه .. دون أي تصريح أو تعريض بذكر المال .. حتى كان يوم الثلاثين فقلت اليوم سأظفر برزقي لا محالة .. فإن الشهر قد انتهى .. وغدا هو العيد .. فلزمتُ المسجد ذلك اليوم .. وما تركت نافلة ولا فريضة إلا وأنا خلف الإمام .. لعله ينمي خيرا أو يصنع معروفا ..

لم أقدّر أن هناك جشعين في صورة أئمة .. وأن شهوة المال تصيب حتى الأئمة .. لم أقدّر ذلك ولم أتهيأ له .. كيف وفي الحديث: من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله رجاءه يوم القيامة فلم يلج الجنة .. لكن .. ربما أن ضعة الحال أعاقتني عن دقة التفكير .. ورحم الله شوقي حيث يقول:

إياك أن تغترّ بالزهادِ **** كم تحت ثوب الزهد من صيادِ ..

قال المسكين: فاستغربتُ أن غربت شمس يوم الثلاثين .. ودقت أفراح العيد .. وابتهج القريب والبعيد .. وارتفع التهليل والتكبير .. وانطلقت التبريكات والتهاني .. وصاحبنا جاثمٌ على حاله .. كلما سلّم سبح قليلا وانطلق إلى داره ..

قال المسكين: فتركته حتى مضى يومٌ ويومان .. ثم لم أصبر .. فقصدتُ داره وكانت سكنا في حرم المسجد .. طرقت الباب ففتح لي .. وبعد السلام والتحية .. قلت له في ليلة كذا وكذا من رمضان جاءك فلانٌ التاجر وأعطاك كذا وكذا من المال .. وائتمنك على تفريقه في ذوي الحاجة .. وأنا والله منهم .. فأبغني نصيبي ..

قال المسكين: فحدج الإمامُ فيّ بصره .. ثم قال: أقول لك .. ذاك المال سأبني به ملحقا في أعلى الدار .. والله لو جئتني ثانية لأكلتُ رأسك .. وتقدم قليلا وعضّ الهواء الذي أمامه .. وهرب المسكين!

آهات طفل في الابتدائي ..

1.

جميلة كانت تلك الأيام ..

بحلوها ومرها .. بمتعها ولذاذاتها .. بآلامها وآمالها ..

قبل عشرين عاما .. كنتُ في المرحلة الابتدائية ..

تذكرتُ ذلك الطفل الذي كان يعيش داخلي ..

كان بريئا .. صامتا.. وذا نظرة جادة للحياة ..

غير أنه نتيجة لحياة الشغب والتحرشات والفوضى ..

آثر الصمت وعزف عن المشاركة في الحياة السياسية .. وظل مراقبا للنزاعات طوال المرحلة الابتدائية .. لا يؤيد طرفا على طرف فضلا أن يتبرع بالتدخل مع طرف على طرف ..

مع ذلك .. ربما تودد يوما لبعض العمالقة والأشرار دفعا لأذاهم .. وتنازل عن حقوقه .. فائزا من الغنيمة بالعافية ..

في الفسحة .. كانت الناحية الأمنية شبه معدومة لا سيما في أطراف الفناء ووسط التجمعات ..

الأسوأ من ذلك .. الحال في الصرفة خصوصا في الشوارع الخلفية ..

فقد كانت "الصرفة" الموعد لأخذ الثارات ومناوشة الخصوم ..

ومعيار التفوق الوحيد: قوة البنية وإجادة فنون القتال من ركل ولكم ..

ضغوطات كبيرة تواجه طالب تلك المرحلة .. نفسية وجسدية ..


لا أريد التوسع في الحديث عن تلك المرحلة العجيبة ..

وإن كانت جديرة بالتوسع والدراسة ..

فقط أقدم هذه الورقة بقلم طفل في الابتدائي بعد أن تحرر من الرهاب

النفسي وانتقل إلى مراحل أخرى .. هدية لرجال التربية والتعليم
والأخصائيين الاجتماعيين والدعاة والمصلحين .. ليدركوا ما يواجه الطالب
في تلك المرحلة من مشكلات وصعوبات .. ويقدّروا حجم الرعب وانعدام الاستقرار النفسي الذي يعيشه طالب الابتدائي ..

2.

[القدوة الصالحة!]

عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي .. وفي نهاية الفصل الدراسي حدث وأن تغيّب أستاذنا لعدة أيام متوالية .. فضموا فصلنا إلى فصل آخر .. لم أكن متعوّدا على مدرّس الفصل الآخر .. لكن كنتُ دائما ما أراه من المشتغلين بتنظيم طابور الصباح .. كان حسن الهيئة دائم البسمة ويرتدي نظارات طبية .. وهي التي رفعت قدره عندي ..

كان مبنى المدرسة مستأجرا يقع في أحد الأحياء القديمة .. فحُشرنا أكثر من ستين طالبا على أقل تقدير في فصل ضيق .. ربما كان يقابل كل ثلاث ماصات أربعة كراسي! .. وربما تقاسم طالبان كرسيا واحدا!! ..

بدأ المدرس دائم البسمة الشرح .. كان يشرح مادة الرياضيات .. نسيت موضوع الدرس .. لكن أحسبه عن الأعداد الكسرية أو توحيد المقامات أو شيء قريب من هذا .. بعد أن مضى نصف الحصة سأل المدرس الطلاب: مين ماهو فاهم؟! وحرّج على من لم يفهم أن يرفع أصبعه .. لاحظت أن عينا الأستاذ تتقدان .. فلم أعر ذلك اهتمام .. رفع عدد من الطلاب أصابعهم .. فأعاد الأستاذ: هل يوجد غير هؤلاء؟! وهدد أنه سيكشف غير الفاهمين بطريقته الخاصة .. فما وجدت بدا من رفع أصبعي مغلبا جانب السلامة .. جمع الأستاذ كل من رفع أصبعه جانبا .. وأحضر عصا وضرب كل واحد منا عصاتين .. عدت لمكاني مستنكرا ومقهورا .. وأعدت النظر في رأيي القديم في ذلك الأستاذ .. ونزل من قدره شيئا ..


استمر الأستاذ يشرح مديدة .. ثم صرخ ثانية: مين ماهو فاهم؟!! وتهدد وتوعد من لم يفهم أن يعترف وإلا ناله العقاب الشديد .. مشيرا إلى أنه لن يعاقب من يعترف بعدم الفهم .. ولشدة التهديد والترويع هممتُ برفع أصبعي إلا أنني تشككتُ في مصداقية وعود الأستاذ .. رفع عدد من الطلاب أصابعهم غير أنهم أقل من العدد الأول .. وشاء الله أن أرفع أصبعي معهم .. فنحانا جانبا وقرّعنا أولا بلسانه السليط ثم انهال علينا ضربا لم أتوقعه .. عدت إلى مقعدي محبطا من إنسانية هذا الأستاذ ووعوده الكاذبة .. وإن كنتُ متيقنا أن هناك أعدادا من الطلاب لم يفهموا الدرس ولكنهم فهموا اللعبة ..

أعاد المدرس شرحه التقليدي .. وأعترف أنني كنتُ مذهولا عنه به .. وقبل أن يدق الجرس أعاد سؤاله البايخ: مين ماهو فاهم؟!! وأكد أنه في هذه المرة لن يضرب أحدا رفع أصبعه .. وأعطى العهود والمواثيق .. وبرر ذلك أنه قد ضرب من لم يفهم فلا جدوى من ضربه مجددا .. وما زال يلين الكلام ويفتل في الذروة والغارب .. حتى اقتنعتُ في كلامه أنا وطالب آخر ..

وفعلا راجعتُ نفسي وفكرت وقدرت فوجدتني غير فاهم على الحقيقة .. رفعت أصبعي التعيسة ورفع الآخر أصبعه مطمئنين لوعود دائم البسمة .. ومعتقدا أننا نلنا من العقاب ما يكفي .. لم أكن متوقعا أن ينكث هذه المرة أبدا ..

لمعت في عيني الأستاذ ابتسامة من نوع آخر .. وأُمر بنا فأحضرنا إلى مقدمة الصف .. وانهال علينا ضربا مع قرع الجرس معلنا نهاية الحصة .. عدت إلى مقعدي وقد احمرّ كفاي وآلماني ألما شديدا .. غير أن الألم الذي اشتعل في نفسي كان أشد وأنكى .. كيف يعدنا تلك الوعود ويطمنا بمعسول الكلام ثم بعد ذلك يقلب لنا ظهر المجنّ .. لقد كرهتُ ذلك الأستاذ كرها جما .. وما رأيته بعدها في نواحي المدرسة إلا نفرت منه .. والحمد لله أنه لم يدرسني طوال المرحلة الابتدائية ..!

3.


[المدير الأحمر]

كان مديرنا في تلك المدرسة رجلا صارما .. جامد المشاعر .. نادر الظهور .. سواء في طابور الصباح أو في الفسحة .. لم أره يمدح أو يذم أحدا أو حتى يخاطب أحدا إلا مرات قليلة كان يصرخ فيها صرخات مفزعة .. أما الحفلات والمهرجانات .. فلم أره ألبتة .. لا لشيء .. سوى أنه لم تقم في مدرستنا أية حفلة أو مسابقة ثقافية أو رياضية طوال المرحلة الابتدائية! ..

كان الطلاب يعانون من كبت ونمطية ورتابة لا جديد فيها .. فاليوم كأمسِ .. وغداً كاليوم .. كل وسائل الإبداع والتحفيز والتشجيع كانت معدومة .. زد على ذلك ضيق المبنى وقلة الأفنية .. دعك اهتراء وتلوث دورات المياه .. التي لم تتوافر فيها أدنى الشروط البيئية والصحية والإنسانية ..

والذي زاد الطين بلة أنه كان في جوارنا مدرسة ابتدائية أخرى .. ذات مبنى حكومي واسع .. لا يفصلنا عنها سوى شارع لا يزيد عرضه عن عشرة أمتار .. ويبدو أنه للانفجار السكاني والتوسع الديموغرافي دور في إنشاء مدرسة جديدة (مدرستنا) لاستيعاب طلبات التسجيل من قبل أهالي المنطقة ..

كانت المدرسة المجاورة تعج بالأنشطة اللامنهجية .. جمعية الصحافة .. جمعية النظام .. جمعية التوعية الإسلامية .. جمعية الزراعة .. جمعية المسرح .. والمسابقات والرحلات والمعسكرات الكشفية .. وكنا نسمع أنهم يلعبون الكرة يوميا في الفسحة بل وبعض مدرسيهم يشاركوهم .. وأن هناك دوري لكرة القدم تشارك فيه كل فصول المدرسة .. فكانوا بالنسبة لنا يعيشون حياة حرة مزدهرة .. تهيئ الطالب للانطلاقة النفسية .. وتنمي فيه الروح الاجتماعية .. وتصقل فيه الملكة الإبداعية ..


أما نحن .. كنا في مدرستنا الحمراء نتسامع بزملائنا وراء النهر .. وبما يحصلون عليه من صلاحيات وامتيازات .. وقبل ذلك كله الكرامة والاهتمام والعناية التي ينعمون بها من قبل إدارتهم .. فكان ذلك يزيدنا أسى وألما .. كأننا ألمانيا الشرقية وكأنهم ألمانيا الغربية .. وكأن سور مدرستهم جدار برلين .. فيا سعد من عبره إلى العالم الحر! ..

النشاط اللامنهجي الذي أقره مديرنا الكريم .. هو جماعة النظام .. الذين لم يكن لهم زي خاص أو منديل يربط في العنق كسائر المدارس .. بل بطاقات حمراء معلقة في الجيب الأعلى مكتوبا فيها اسم عضو "النظام" ..

كانت هناك أيضا جماعة الإذاعة .. لا أدري متى استحدثت .. وكان يديرها ويقوم بكل أعمالها طالب واحد! .. أذكره لما كان في الصف الخامس .. وكان يسبقني بسنة .. كانت له مهمة واحدة .. وهي أنه حين يقرع الجرس معلنا بداية الفسحة ينطلق إلى غرفة الإذاعة ويفتح الباب ويغلقه على نفسه ويقوم بفتح جهاز تسجيل فيه شريط لعبد الباسط عبد الصمد .. ويقوم بتقريبه من جهاز اللاقط (المايك) .. فمنذ بداية الفسحة إلى نهايتها ولا شيء يطرق مسامعنا غير تلاوات عبد الباسط عبد الصمد .. لا زلت أتذكر تلك الترنمات العذبة الندية .. تصدح بنا في كل فسحة أثناء تناول السندوتش والبيبسي ..

حدث تجديد واحد على النشاط الإذاعي .. فقد تبرع عريف فصلنا (م.ص.) لجمعية الإذاعة بشريط أناشيد إسلامية .. لا علبة له ولا غلاف .. لا أدري كيف حصل عليه! .. فقد كان وجود أشرطة الأناشيد الإسلامية تلك الأيام عزيزا .. فكانت جمعية الإذاعة تنعم على الجماهير أحيانا فتذيعه لهم .. كان من مقطوعات تلك الأنشودة:
وعلى اليرموك تراتيلُ **** من أهل الذكر وتنزيلُ

العجيب أن عريفنا (م.ص.) كان كثير اللعب في الفصل واللهو عن الدراسة .. إلا أن فيه دعابة ومرح وطيبة قلب! ..

تأسست أيضا جمعية المكتبة .. وكان يديرها أيضا صاحب "الإذاعة"! .. ومكتبه نفس المكتب أو قل القبو الذي يقبع فيه ليبث إذاعته المشهورة ..


كان له مساعد قصير القامة يساعده للشئون المكتبية .. وقد حدث مرة وأن فتح باب الإعارة .. سمعت بذلك فذهبت لأستعير مع المستعيرين مضحيا بالإفطار .. لأنه عليك إما أن (تتفسّح) أو تستعير كتابا ..

تكبدت المشاق .. وصففت في طابور المستعيرين .. إذا بالمساعد القصير قد جمع عددا من الكتب ووضعها أمامه فوق بعض .. وعليك أن تأخذ أعلى كتاب وصل عليه دورك .. ولا خيار لك .. فعند ذلك المساعد من حجج الإقناع والتعلل بضيق الوقت ومنفعة كل كتاب ما يجعلك تقبل بأي شيء .. وصل دوري عند نهاية الفسحة .. أخذت أعلى كتاب وكتبت اسمي ووقعت في دفتر الإعارة ..

كان الكتاب الذي من نصيبي "16 حكاية من الحارة" لمحمد صادق دياب .. أخذته للبيت .. وقرأته كاملا .. وأقرأته أقراني .. وسط إعجاب شديد بالمزايا التي صرنا نتمتع بها ..

الجدير بالذكر أن جمعية المكتبة هذه أقفلت .. لأن الطالب الوحيد القائم عليها قد تخرج من الصف السادس! ..

شقيقي الأكبر كان في المدرسة المجاورة .. حدثني مرة أنهم قاموا بزيارة لمصنع البلاستيك مع أساتذتهم .. وكيف وُفرت لهم الحافلات .. وكيف رحّب بهم مهندسو المصنع .. ووزعوا عليهم هدايا عبارة عن أكواب بلاستيكية! .. فأحدث كلامه لي صدمة ثقافية ..


حدث مرةً واحدة .. ربما إنني كنت في الصف الخامس .. أن شاركت مدرستنا في نشاط رياضي عالمي .. فقد سمعت من الطلاب أن مدرستنا (ح) سوف تلعب مباراة مع المدرسة التي في جوارنا (ق) على أرضنا .. في البداية كان الخبر محل شك من بعض الطلاب لولا ذيوعه في معظم أرجاء المدرسة ..

لم يخبرنا أحدٌ رسميا لا في الإذاعة ولا في طابور الصباح ولم يُعلق إعلان يوضح يوم المباراة واسم الفريق الضيف .. حيث لم تكن هناك لوحة إعلانات ..!

المهم .. قرع جرس الفسحة ذلك اليوم .. فاحتجزَنا المدرسون في فصولنا قليلا .. وفهمنا منهم أن اليوم ستكون المباراة .. ففرحنا جدا أن هناك خروجا عن المألوف .. طال احتجاز المدرس لنا فزاد صخب الطلاب .. فأفادنا بهدوء أن الحوش صغير ولا يسع أن تُلعب فيه مباراة وأن نتفسّح فيه في نفس الوقت! ..

كان كلامه يعني أن نبقى في الفصل .. ونؤثر الحوش لضيوف المدرسة .. سرت في الطلاب موجة إحباط بالغة .. ولكن قدّر الله الخير .. فتمكنا من النزول بعد أن بدأت المباراة .. تكدس طلاب المدرسة كلهم في شريط ضيق حول الحوش لا يزيد عرضه عن المترين .. ورغم حياة الاضطهاد والمرارة التي كنا فيها .. مع ذلك .. فقد كنا نشجع فريق مدرستنا بحرارة رهيبة .. وانفجرت فينا الروح الوطنية المختزنة من سنوات .. واستمتعنا بحق التعبير عن الذات ..

بلادي وإن جارت علي عزيزة **** وأهلي وإن ظنوا علي كرام

رغم تشجيعنا وهتافنا الضخم كانت هناك روح انهزامية خفية تبشر بنتيجة غير مطمئنة .. بسبب الواقع المرير الذي كنا نعيشه .. ففريقهم دائم التمرّن وله خبرة بالمشاركات الخارجية وذو روح معنوية عالية ..

وفريقنا لم يتشكل أصلا إلا بعد تحديد موعد المباراة .. التي ما تمت إلا بعد مفاوضات طويلة مع مديرنا الأحمر .. عموما .. حتى الآن لا أعلم نتيجة تلك المباراة اليتيمة .. فعند اقتراب موعد نهاية الفسحة .. هجم علينا المدرسون المسئولون عن استتباب الأمن في الفسحة .. وحاشونا كالغنم المدفوعة إلى فصولنا .. فحدثت جلبة وتصادم وركض وتساقط .. حتى دخلنا الفصول .. فلم ندر كم انتهت المباراة .. فقائل قد فزنا .. وقائل قد هزمنا .. وإنني لأحسبها الأخيرة ..


4.

[أستاذنا م.ب.]
بعد أن صرت في الصف الرابع .. جدّت علينا موادّ لم نعهدها .. كالجغرافيا والتاريخ والقواعد .. زاد عدد المدرسين الذين يدرّسونا .. كان يدرسنا مواد العربية الأستاذ (م.ب.) .. كان ذلك الأستاذ قاسيا.. جبارا .. مرعبا .. بكل المقاييس .. كان أسمر شديد الأدمة .. جاحظ العينين .. لا يعرف الابتسامة ولا التبسم .. له صوت مجلجل .. يبدأ خافتا كفحيح الحية .. ويزيد في الجهارة حتى يصير كزئير الأسد .. أما شعر رأسه فقد كان كثيفا ثائرا قد خرج من فوق أذنيه وتحت غترته .. كأن اجتماع صفاته الخَلقية والخُلقية مثال على التلاؤم بين التركيب والوظيفة في علم الحياة .. وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه ..

كان ذلك الأستاذ لا يمكن أن يعيش بدون عصا .. فإن احتاجها ولما يجدها .. يصيبه مثل الهياج العصبي .. ويصرخ على الطالب الذي أمامه أن يحضر عصاً في أسرع وقت .. ويمضي يلف ويتلفت ويفرك يدا بيد .. ويصدر فحيحه .. فإذا أمسك بالعصا سكن وهدأ روعه شيئا .. استعدادا للغارة الكبرى ..

كانت المواد التي يدرسناها سهلة .. كالمطالعة والأناشيد لكن القواعد .. التي كانت حصتين في الأسبوع .. لكنها كانت أرهب وأنكد وقتين في الأسبوع .. فعند دخوله الفصل .. تعتري المكان قدسية ورهبة وترقب ووجل .. تتزايد فيه معدلات نبضات القلب .. ويخيم الوجوم على الوجوه ..

يدخل فيسأل سؤالا أو سؤالين .. فإن وجد في الجواب خطأ أو تعتعة .. أمر الجميع بلزوم مقاعدهم .. وأن يصير كل واحد كالتمثال لا يتحرك .. هكذا باللفظ .. ثم يبدأ بشد ذراعه يمرنها .. ثم يهجم علينا هجوما كهجوم أبي حية النميري .. والويل لمن توخى الضربة التي من نصيبه .. فربما وقعت على الكتف أو الصدر أو الوجه .. حتى يصل إلى آخر الصفوف .. وبعد أن يفرغ من مهمته تنفرج أساريره شيئا ويبدأ في الدرس الجديد ..

حقيقة أنني اكتسبت ملكة جيدة في علم النحو .. لازمتني طول حياتي .. منذ الصف الرابع .. وفي المراحل المتوسطة والثانوية حتى الجامعية .. ونلت الجوائز على التفوق في النحو بالذات .. ربما يعود السبب في ذلك إلى أستاذنا (م. ب.) .. ربما ..!!

كان ذلك الأستاذ يتفنن في صناعة أنواع العقاب .. النفسية والجسدية .. فضلا عن الرهاب النفسي والإبادة الجماعية التي نتعرض لها في الصف .. كان يصدر قرارات أسبوعية .. يمنع فيها الطلاب الذين أخطأوا الجواب أو لم يحلوا الواجب من النزول لحصة الرياضة! ..

في كل حصة رياضة .. يأتي إلى فصلنا قبل أستاذ الرياضة .. الذي لا يأتي أصلا .. ويقول: فلان وفلان ممنوع أن تنزلوا إلى الحوش! .. وإن نسي يوما .. فهناك من المتطوعين من يتبرع بتذكيره فيأتي ..

كان هناك عددٌ قليل من الطلاب لم ينعموا بحصة الرياضة منذ صدور قرار المنع .. كانت أسماؤهم دائما في القائمة السوداء .. ولكن من حسن حظهم .. أو ربما لسوء حظهم .. أن نافذة فصلنا مطلة على الحوش .. فكانوا يشاهدوننا من خلالها حينما ننقسم إلى ثلاثة فرق .. ربما كان هذا يخفف عنهم ألم الحرمان وربما يزيدهم ألماً إلى ألم ..

حدث وإن أدرج اسمي يوما في القائمة السوداء .. ولستُ أذكر أنني قصرت أو أهملت في شيء .. ولكنني لم أعترض .. فعشت ذلك اليوم حياة المحرومين .. وجعلتُ أنظر معهم من خلال النافذة الصغيرة ..

الطالب (غ.م.) كان بليد الذهن .. كسولا .. ومتأخرا في دراسته .. كان ينال أشد العقاب من الأستاذ (م.ب.) .. دائما ما كنت أسمع صراخه واستغاثاته من شدة الضرب الذي لم يكد يسلم منه يوما .. كان مقعده في آخر الصفوف .. كنت أسمعه من ورائي .. ولا أجرؤ أن ألتفت إليه من شدة الرعب .. والأستاذ يتهدده ويتوعده ويقسم له إن لم يمد يده وإلا فسيقوم بتبنيجه حتى يتمكن من ضربه .. كنت أفكر ما معنى تبنيج؟ وما البنج؟! .. وهل بلغ الأمر إلى حد التبنيج؟!! ..

مسكين زميلنا (غ.م.) لم ينزل إلى حصة الرياضة من تاريخ صدور قرار المنع .. الذي اتخذه في وقت مبكر من الفصل الدراسي ..

مرة نسي الأستاذ أن يأتينا .. فهمّ المتطوعون بإخباره إلا أن (غ.م.) لوّح لهم بيده في إشارة تعني الانتقام .. فحاروا وسكنوا .. نزل ذلك اليوم يلعب معنا .. لكم أذكره وهو يعدو خلف الكرة جذلا منتشيا في لحظة استثنائية ..

بعد انتهاء الحصة .. نمى إلى علم الأستاذ أن (غ.م.) قد نزل ولعب في حصة الرياضة .. فكأن قد أتى بإحدى الموبقات السبع .. فنال ذلك اليوم عقابا شديدا.. ربما أنه كان مقدرا سوء العاقبة .. ولكن يبدو أنه لم يحفل كثيرا لاستمرائه الضرب والجلد والتبنيج!! ..

الأحد، 8 أغسطس 2010

افتتاح سوق الجواري بجدة تقاطع شارع التحلية مع فلسطين!! ..

سمهنّ ما شئت! .. جواري .. إماء .. رقيق .. سراري .. لا يهم .. فالمعنى أحلى من الاسم .. والشوكولاتة ألذ من القرطاس .. والموز خير من قشره .. والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ..

هذا العصر الذي نعيشه .. هو أشق العصور على الشاب .. فالشاب العادي في يومنا خير من مئات مثله من القرن الرابع الهجري حتى المائة سنة الأخيرة .. لأنه يكابد ويقاوم أعداء كثيرة .. أولهم وأمكرهم .. النصف الآخر .. الجنس اللطيف .. ماء الحياة .. أنس الوجود .. حبائل الشيطان .. ولشدة دهائها ومكرها فقد اكتسبت ألقابا كثيرة .. معظمها وجلها ألقاب باركها إبليس ..!!

أشق العصور على الشاب لسببين .. أولاهما: انقطاع عصر الجواري .. والتسري .. الخيار الآخر للتغشي .. الذي لا نراه إلا في الكتب .. والكتب فقط .. وقد رأيت مرة في إحدى المجلات صورة للوحة قديمة لأحد المستشرقين يصور فيها سوق الجواري في القاهرة قبل نحو قرن وأزيد من الآن .. لو وجدتها لوفرت علي ثلاثة أرباع المقالة! ..

ثانيهما: التكنولوجيا اللعينة .. فتجد الحرائر لا الجواري قد بَدَون على صفحات الغلاف في المجلات والجرايد والروايات .. وألصقت صورهن في علب الشامبوهات .. والصابون .. ومعجونات الأسنان .. والعطورات .. حتى صرت تجد الحريم في دعايات السيارات والعقارات والاكتتابات! ..

ويلاحقن الشاب في الفضائيات .. وأشرطة الفيديو .. والأقراص المدمجة .. والسينما .. والإنترنت .. وفي كل وادٍ وسرداب ..!

ومما زاد الطين بلة اكتشاف الإنارة واللمبات التي أكملت الناقص .. فقد أضيئت المراكز التجارية والأسواق والشوارع والطرقات والمطارات والمستشفيات .. وصارت في حالك الليالي وكأنها في وضح النهار ..!

أما شباب الدولة الأموية والعباسية فمرتاحون من تسخير التكنولوجيا في الخير والشر على السواء ..! فلا ستار أكاديمي .. ولا مجلة سيدتي! ..

ما هو إلا زيت الاستصباح لإشعال المصابيح والقناديل .. على عزة في وجوده .. إلا في دار الوالي وعامل الوالي وشاهبندر التجار وصاحب الشرط!! ..

فضلا عن توافر الجواري والإماء في البيوت والدور من أن يبلغ الولد حتى يتزوج!! .. فلا تقارن! فالمقارنة هنا جائرة ..

عموما .. لكم أشفق عليك أيها البائس المنكود .. الغضّ العود .. المنحني القناة .. المشعّث الرأس .. المندلق اللعاب .. والفكر أيضا .. خذ عني .. فإنني شيخ يمشي في خريف العمر .. وقريبا سأحتفل بعيد ميلادي التسعين!! .. شيخٌ فهم الحياة وألاعيبها .. وظاهرها وباطنها .. وفهم كيد صواحب يوسف .. وتلميذات إبليس ..!

بعد أن عركتني السنون .. وعركتها .. أضع بين يديك بني هذه الخطة الحربية لتضييق الخناق على عدواتنا من بنات جلدتنا ..

وظلم ذوي القربي أشد مضاضة **** على النفس من وقع الحسام المهندِ

هي خطة التفافية لم يسبقني إليها أحد .. وكما يقول الخبراء العسكريون .. أفضل طريقة للدفاع الهجوم .. فافهموا التكتيك .. والتزموا الهدوء .. والحرب خدعة! ..

ليت الشاب لا يبلغ إلا قبل يوم زواجه بيوم! .. أو ساعتين!! .. فيريح ويستريح .. ويختصر الطريق .. ولكن:

كُتب القتل والقتال علينا **** وعلى الغانيات جرّ الذيول ..

صدقوني أني فهمت أشياء خطيرة .. وتفاجأت أني لم أفهمها إلا الآن! .. لم أدرسها في الابتدائية .. ولا في المتوسطة .. ولا في الجامعة ..

ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلا **** ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له **** بتاتا ولم تضرب له وقت موعدِ

مع ذلك .. فلا مكان لليأس .. والحياة مغالبة .. والقدر يدفع بالقدر .. وما زال في الأرض ميدان ومتسعُ ..


وما نيل المطالب بالتمني **** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ..
أيها الشباب الغلابا!! .. اكتسوا بالعفة .. وتساموا بأنفسكم .. وسلوا الله العصمة! ..

الشباب كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: شعبة من الجنون .. وما سمي الشاب بالشاب إلا لأنها فترة شبوب الشهوة ..

إن أصحّ التفاسير لقول الله تعالى: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) هو تفسير مكحول الدمشقي عليه سحائب الله المتتابعة .. قال مكحول: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال: العزبة والغلمة.ا.هـ.

عموما ما كتبتُ بعدُ ما أريد! .. ما هي إلا صبابة حبر انسكبت على القرطاس من غير قصد ..

قدّمتُ أن الشاب في عصرنا يمر بحالة نفسية عصيبة .. توجب أن نكون بجانبه .. ونشفق عليه شفقة الأم الرؤوم بولدها .. والطبيب الشفيق بمريضه .. وإلا لم يكن لحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان" معنى! ..

يواجه الشاب بركانا داخليا .. ينشط ويثور كلما رأى سحابة مرت أمامه .. ثم يخمد .. ثم يثور من جديد .. وهكذا حتى يصل إلى الثلاثين من عمره .. وقد تلفت 35% من خلايا دماغه .. وخلايا الدماغ إذا ماتت لا تعوض! ..

قال أحد المجانين:
قالت عهدتك مجنونا فقلت لها **** إن الشباب جنون برؤه الكبَرُ ..

أفففف .. إن صدق هذا المجنون فلن يبلغ المرء الستين حتى تمسح 60% من خلاياه المتبقية .. وسيرجعُ كالملك المغلوب! ..

قبل أن ننجر فيما لا يجدي .. ونتورط في معارك جانبية .. دعونا نسأل من وراء هذا التخريب؟ .. هل يُطالب من وراءه بالدية أو القوَد والأرش؟! ..

إنها من قالت لذاك الحاج حين رآها تطوف بالبيت فسألها: ممّ أنت؟! قالت:
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة **** ولكن ليقتلن البرئ المغفلا ..

انظر! .. لمَ يتسلطن على البريء المغفل؟! بأي حق يتسلطن عليه؟! .. ألأن القانون لا يحمي المغفلين؟! .. لكم الله أيها المغفلون! ..

أرى هؤلاء الشببة المناكيد .. في أماكن اجتماعهم وملتقياتهم يتحدثون مطرقين وكأنّ على رؤوسهم الطير ..
ولو رأيت بكاهم عند (هرجتهم) **** لهالك الأمر واستوهتك أحزانُ!

أوه .. حتى الآن لم أحلل ولم أشخص ولم أرصد ولم أنصح لكم شيئا ..

قال تعالى عن إبليس: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) .. وقال في حق تلميذاته: (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) .. سبحانه وتعالى وتقدس .. آمنت بالله .. كيد الشيطان ضعيف .. وكيدهن عظيم!! ..

أدركتُ مؤخرا أن الانعطاف إلى الأنثى .. حاجة فوق كل الحاجات .. لم يخبرني بذلك أحد .. اكتشفته من الله .. ولعله تحقق لي من طريق الكشف! ..

فيما مضى أذكر أنهم كانوا مختلفين في مسألة في "كتاب النكاح": هل النكاح للضرورة أم للتفكه؟! .. هذه المسألة – في وجهة نظري – لم تعد واردة .. وأحسبها تعدّ من فضول العلم ..

هذا الحل الفولاذي الذي اكتشفته .. سيحل مشكلاتٍ أبعد من ذلك .. بطرق شرعية فطرية اجتماعية .. سيحل مشكلة الممرضات في المستشفيات .. والمضيفات في الطائرات .. والسكرتيرات في المكاتب .. وسيقطع الطريق على كل من تصطاد في الماء العكر .. من المتهتكات في الأسواق .. والمتغنجات في الكلمات .. والمتجلببات بلا جلباب ..

وسيعيد التوازن النفسي والذهني والسلوكي عند فئام من الشباب .. وستسير عجلة التنمية .. وتتحقق المعجزة .. وترتسم السعادة .. ويظهر بزوغ عهد جديد ..

بداية الحل .. ولا تستغربوا: الجهاد في سبيل الله .. نعم هو ذا! .. وبعد الجهاد .. سنلقى إحدى الحسنيين .. إما النصر .. النصر بكل أنواعه: النفسي والمعنوي والمادي .. ومن الأخير الغنائم والسبايا .. ولنبقى في الثانية .. السبايا ..

عند ذلك ستؤخذ الجواري ويبعن في أسواق النخاسة بجدة .. والرياض .. والدمام .. وستحدث ثورة هائلة في البلد .. سوف تنسيكم ثورة انتشار الجوال .. وثورة البث الفضائي .. وثورة ستار أكاديمي .. وثورة اكتتاب بنك البلاد ..

راجعوا "كتاب القيان" من رسائل الجاحظ .. أو "باب القينات والأغاني" من المستطرف .. أو أيّا من كتب الأخبار .. انظروا كيف كان سراة القوم في هناءة من العيش .. وانظروا في زماننا كيف صار ذوو المرؤات في شدة من العيش ..!

قال اللطيف الخبير: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ..

من مخلفات الثورة .. سيكثر النخاسون .. وتتسع أسواق النخاسة .. وتنتشر الدعايات في جريدة الوسيلة .. ولك أن تقلب البضاعة بيديك قبل أن تنقد النخاس الدراهم والدنانير .. وستدرك لأول مرة في حياتك معنى : (أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) ..

وستفهم معنى: هل كفارة اليمين على الترتيب أم التخيير؟! .. وسيختار الشعب بأكمله الخيار الثالث في الآية! .. وستعلم معنى "الاستبراء بحيضة" .. و"ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد" .. وأشياء كثيرة ..

صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .. لأننا قعدنا .. سلّط الله علينا ذلا لا ينزعه عنا حتى نرجع إلى ديننا .. وما جنينا لا عنب الشام ولا بلح اليمن .. ولا الرومية .. ولا التركية .. ولا الخراسانية .. ولا البربرية .. آه يا أيام الدولة العباسية .. والمملوكية .. والسلجوقية ..! والعثمانية حتى العام 1924 ..

اللهم أقم علم الجهاد! ..

اللهم أقم علم الجهاد! ..

اللهم أقم علم الجهاد! ..

الاثنين، 2 أغسطس 2010

دنيا على حال ما تبقى ..


في وسط تلافيف أحد الأحياء الشعبية التالدة .. لفتت نظري كتابة بـ(بخاخ) أزرق على أحد الجدران البالية: "دنيا على حال ما تبقى" .. كلام معبر وحكمة بليغة .. حقا .. أصحاب الأحياء الشعبية فلاسفة كما هم الدكاترة والأكاديميون .. يقول المنفلوطي: لا تحسبنّ أن الفلسفة الاصطلاحية مطلب من المطالب التي لا ترام، أو أن بين من نسميهم العلماء ومن نسميهم الجهلاء ذلك الفرق العظيم الذي يتصوره الناس عندما يرون التفريق بينهما ... فالعلماء والجهلاء - إن دققت النظر - سواء لا فرق بينهما، إلا أن هؤلاء يعلمون المعلومات منظمة، وأولئك يعلمونها مبعثرة ...الخ المقالة ..

واعظ! ..

حدثني صديق .. قال:
في الصيف الماضي .. أخذت والدتي إلى أحد المخيمات الصيفية .. لم يكن همي إلا إخراج والدتي من البيت ودفع السآمة والوحشة عنها .. فقد كبرت سنها .. وتزوج أكثر ولدها .. وحق برها .. وحان أداء الدين الذي لها .. فقصدت أحد المخيمات الصيفية .. وهذه المخيمات فضلها كبير وخيرها عميم ..

يقول صديقي:
أدخلت والدتي القسم المخصص للنساء .. وقعدتُ في قسم الرجال .. لم يك يعنيني عنوان المحاضرة أو المحاضر أو الوقت أو البرنامج .. لم أبغي إلا قطع الرتابة وكسر الروتين وتجديد النشاط لوالدتي ولي ..

كان هناك واعظ .. بدأ موعظته .. واشتدت نبرته .. وانتفخت أوداجه .. كان يتكلم بالتفصيل الممل المخل .. عن الانحرافات الجنسية والجرائم الأخلاقية للشباب والفتيات .. ويؤكد ذلك بقصص وشواهد مقززة منفرة .. وحكايات فظيعة شنيعة .. وما كان يخرج من فاجعة إلا وقد بدأ بطامة .. كنت أتلمظ غيظا وأرتجف خوفا على والدتي عند سماع تلك القصص .. فهذا شاب اتصل عليه يشكو له ما يعانيه من تحرشات جنسية به .. وهذا طالب أتى إلى المدرسة وهو يبكي ولما سئل عن ذلك أجاب أنه رأى والده يفعل ذاك الشيء مع الخادمة! .. وهذه فتاة قد خرجت مع شاب فسلبها أعز ما تملك! .. وغيرها من الفواجع والكوارث الكثير .. والحر تكفيه الإشارة ..

يقول الصديق:
وكانت والدتي من نساء الطراز الأول .. لم تدنس فطرهن بالحياة المعاصرة ومشكلاتها المعقدة .. ولا تحب طرق هذه الأحاديث وسماع هذا الكلام .. حتى لو كان وعظا! .. بل تكرهه وتمجه وتمقته .. وتعد من ينقله ويفشيه "داشرا" .. حسب رأيها ..

وكان صاحبنا كالسيل الهادر .. يأسى على فساد المجتمع وانهيار الأخلاق .. يصرخ ويشنع ويستغيث .. وكنت والله أستغيث بالله من الكرب العظيم الذي نزل علي .. وأدعو في نفسي أن ينكف لسانه وينقطع صوته ..

خرجتُ سريعا وناديت والدتي وركبنا السيارة .. لاحظت كما توقعت .. أن والدتي لم ترتح للموعظة الصاخبة .. لأنها في العادة تشيد بما سمعت من وعظ وكلام حسن .. بل لزمنا الصمت حتى دخلنا الدار! ..


في مجلس آخر وزمان آخر .. تحدث أحد الجالسين أنه في أول أيام التزامه وبداية مسلكه .. حدّث والده بقصة شنيعة .. وقبيحة جدا .. أربأ بذكرها .. يقول .. فما كان من والدي إلا أن ركلني برجله ركلة أبعدتني منه ثلاثة أقدام! وقال: يا ولدي! ما عندك غير هذه القصص .. اسكت! ..

فليرحم الوعاظُ الحاضرين .. وهم شرائح وأطياف متنوعة .. من الكبير والصغير .. والمقيم والوافد .. والرجل والمرأة .. والمراهق والمراهقة .. فلكل مقام مقال .. وليس كل ما يعرف يقال .. والحكمة ضالة المؤمن .. وما حدثت قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة .. ومن الناس من هو دقيق المشاعر .. مرهف الحس .. يكدّر خاطره أدنى انحراف عن الفطرة .. فما بالك بواعظ سرد حكايات ألف ليلة وليلة بأسلوب فج أمام الملأ! ..

يجب على كل واعظ .. أن يحترم عقول الناس .. ويراعي أحاسيسهم .. وأن يكون ذكي الفؤاد .. عالما بأحوال العباد .. يعرف ما يقول وما يدع .. ينثر المستحسن ويخفي المستبشع ..

في طابور الفول .. كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم! ..

في أيام رمضان وعرفة وعاشوراء .. تزدهر صناعة الفول .. وتمتلأ الجرار .. وتتقاطر الناس .. وتزدحم الصفوف .. حتى التصق اسم الفول بالصيام .. بل صار في قائمة المطاعم الفخمة .. وفي بوفيهات فنادق الخمسة نجوم! ..

مع ذلك .. لا أحب أن أدخل طابور الفول خصوصا في ساعات الذروة .. حيث المنظر العام لا يتناسب والشكل الحضاري .. وأصرُّ على الأهل إن طلبوا الفول أن يصنعوا "فول مدمّس" مع "الكشنة" .. فهذا أيسر في الشراء .. وأحفظ لماء الوجه ..

غير أنه في بعض الأحايين تنخرم القاعدة .. وتحنّ النفس .. ويزداد الإغراء بالفول .. وتصبح لذة طبق فول الجرة لا تقاوم .. فأميل مع العاصفة ..

وقد فعلتها اليوم .. تحينت فرصة .. وتخيرت فوالا ليس بالمشهور وليس بالمغمور .. وكنت ثالث ثلاثة أو رابع أربعة .. وما هي إلا لحظات وإذا بالطابور ينحرف عن مساره من كثرة الناس! .. لا أدري متى جاءوا؟ ولا من أين جاءوا؟! ..

تمنيتُ أن لا يراني صديقٌ وأنا أنتظر دوري .. فجأة جاء بدوي خشن الطبع .. عليه جفوة الأعراب .. واجتاز الطابور بأكمله .. وصعد على عتبة المحل وأدخل رأسه من نافذة صغيرة وصرخ في البائع وأمره أن يعجّل له في "الطلب" .. لا أدري .. هل حضر قبلنا؟ أم ترك دوره وعاد إليه؟! أم أنه يحمل بطاقة "النخبة" في بنك من البنوك؟! ..

تعطل الدور .. وسمعت همهمات الناس .. وتبرمهم .. وتخوفت من حدوث معركة أو تراشق بالكلام .. فأقع في ما فررت منه .. فجعلتُ أشيح بوجهي إلى الجهة الأخرى خشية أن أتورط في "معركة فول" .. أخذ البدوي يصيح ويصرخ .. ولا أتبين من كلامه شيئا .. حتى رمى عليه الفوال كيسا مملوءا بالفول .. فلفه حول ذراعه وأدار وجهه إلينا وقال: هيّه .. فـمان الله .. وانصرف راشدا ..

معارك طوابير الفول كثيرة ومتكررة وشرسة .. وسمعت عن حالات تدخلت فيها الشرطة .. وحالات تم نقل المصابين فيها بالإسعاف .. وفجائع كثيرة ..

مرة أخرى .. كنت قد دعوتُ بعض الأصدقاء إلى الغداء بعد صلاة الجمعة .. فكرتُ ماذا أقدم لهم .. فاستقر رأيي على السمك .. وبالفعل .. صليت في مسجد قصير الخطبة قصير الصلاة .. وغدوتُ من فوري مهرولا إلى محل الأسماك .. فوجدت أمة من الناس قد وصلت قبلي ورابطت على باب المحلّ .. فلم أستطع حتى القرب من باب المحل .. كان الباب موصدا بالحديد .. وكان القوم يضعون أيديهم على أصفاد الباب متحينين ساعة الصفر .. كان منظرهم كمساجين ينتظرون الإفراج عنهم .. ولم أكن لأفعل كهذه الفعلات ولكني كنتُ في حرجٍ من الضيوف أن يحضروا وما هيئت لهم طعاما .. ولو تأخرت في الطلب لتأخر الغداء .. فتح أحد العمّال الباب فهجمت الرجال .. وهجمتُ معهم .. التقطت عددا من الأسماك ووزنتها ونقدت البائع الثمن .. أخبرني أنه سيطرحه في المقلى حالا .. والموعد بعد نصف ساعة ..

حقيقة كان هناك رجلٌ قمة في الأدب والذوق .. وقبل ذلك العقل .. كان حاضرا قبلي .. ولما اقتحمنا الدكان .. تركنا نعدو وحدنا .. كأننا في "ثورة جياع" .. ونجمع من السمك ما نريد .. ودخل هو بعدنا في هدوء وتؤدة .. لم يزاحم ولم يرفع صوته .. بل بهدوء ورزانة جمع أسماكه ووضعها في آخر "السرا" ..

خجلتُ من فعلتي وأدركتُ أنا نحتاج إلى القدوة .. بفعله لا بفيه .. لقد أثر فيّ تصرفه .. وعزمت بعدها أن أحذو حذوه .. وأن أكون عبد الله المظلوم لا عبد الله الظالم في طابور الفول والسمك ..

سوبر شيخ ..

أخرج أحمد والترمذي عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" ..

الخصلة الثانية من هذا الحديث الشريف .. "والشرف لدينه" .. هي بيت القصيد وموضوع النقاش ..

من الأخطاء المتكررة والشنيعة .. في تربية النشء .. وبناء الفلذات .. القذف في روع الطالب أن يحصّل كل فضائل الدين والدنيا .. ويتحلى بالمروءة والنجدة والسخاء والجود والزهد والشهامة والفروسية .. ويكون فكها مليحا خفيف الظل .. يجيد الخطابة ويحترف الكتابة .. ويحفظ المتون ويشارك في الفنون .. ويقرض الأشعار ويحلل الأخبار .. وينكر المنكرات .. ويعظ الناس .. ويحذرهم مغبة التفريط في صيام الهواجر وقيام الأسحار .. ويأسى على فساد المجتمع وانهيار الأخلاق وانتحار الفضيلة ..!

على الشاب أن يحيط بكل ذلك وأجمع منه في وقت قصير جدا من عمره القصير جدا ..
لا بد أن نشحنه بالمكارم والفضائل والمعالي ونجمع له:
إقدام عمرو في سماحة حاتم **** في حلم أحنف في ذكاء إياس
ونصيّره كما قال ابن دريد:
والناس ألف منهم كواحدٍ **** وواحد كالألف إن أمر عنى

لا بد أن يحوز الطالب الكمال وتُرى فيه مخايل النجابة والنضج ..


لكن – وبكل أسف – غالبا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن .. وتخيب الظنون .. ونفاجأ بالطامة الكبرى .. ونجد أن الأمر ليس كما رسمنا وخططنا وتوهمنا .. وفي أحسن الأحوال نعترف بالخلل وننعي الجيل القادم ..! وننسى الركن الأهم في القضية التربوية .. الطالب لا الوسيلة التعليمية ولا غيرها كما يزعمون ..

الحقيقة المرة .. هي الإغراق في الأماني .. والحرص على الشرف للدين .. والاهتمام بصورة الإسلام لا حقيقته .. والتلبس بمسوح ضأن على نفس قد دساها ..

الحقيقة .. أننا لسنا واقعيين! ولم نتعامل بواقعية مع المتلقي المسكين .. لم نراعِ الحاجات النفسية .. والطبائع الجبلية .. والفروقات الفردية للخلق ..

أردنا أن نستنسخ آلافا من الشافعي وشيخ الإسلام وصلاح الدين بتقنية التكلف وبسيف الحياء فخرج لنا آلافا من الشباب بإمكانات عادية ومتواضعة .. أردنا عمرا وأراد الله خارجة .. والحمد لله على كل حال ..

سببٌ من أسباب ذلك هو تنافس المربين على الحظوة .. وحرص كل منهم على الشرف لدينه ..

لا بد لمن أراد أن يلحق بركبنا .. أن يتبعنا حذو القذة بالقذة .. ويأخذنا بكليتنا .. يفكر كما نفكر .. ويتكلم كما نتكلم .. ويكتب كما نكتب .. ويبكي في التراويح كما نبكي .. ويُعلن تحسره على أحوال المسلمين في كشمير والشيشان .. ويسب من نسب ويلعن من نلعن .. وإلا فإن قدره أقل من قدرنا .. وورعه دون ورعنا .. واهتمامه بالمسلمين ليس كاهتمامنا ..

فيضطر المسكين ليرضى عنه المربي – الذي يحتاج إلى مربي – إلى التصنع والتكلف .. حرصا على الشرف لدينه .. وليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى ..!

هذا .. مع أنه لم تتجلى له معاني الإيمان بعدُ .. ولم تتداخل في دمه ووجدانه .. فيظل برهة في تصنع وتكلف يزيد مع الأيام .. وهو يحسه في نفسه ويكرهه ويمجه ..

نحوجه إلى أن يتشبع بما لم يعط .. ونضطره أن يصانع في أمور كثيرة .. حتى نقبله في صفنا .. ونعتبره في خندقنا! .. نضيق على عباد الله .. والله لطيف بعباده .. !

قد نسينا أن بداية الألف ميل خطوة .. وأن حقائق الإيمان والتفاعل والانفعال مع أحوال المسلمين والوصول إلى مرحلة "المؤمن للمؤمن كالبنيان" .. مرحلة لا يصل إليها المرء إلا بعد جهد جهيد ولأي شديد وتربية شاقة وتزكية طويل أمدها .. لا يمكن أن يبلغها الحدث والشاب اليافع .. إلا منة من الله .. وعجب ربنا من شاب ليست له صبوة! ..

قال ابن رجب الحنبلي: وها هنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه ... وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وتأمره أمه بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها، فلا يفعل. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا، ويشترط الخوصة: يعني التي تربط بها جزرة البقل، فقال أحمد أيش هذه المسائل؟! .. قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم، فقال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم، فنعم هذا يشبه ذاك.
وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ... واستأذن رجلٌ الإمام أحمد أن يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة، ويقدم على الشبهات، من غير توقف. انتهى .

في كلام ابن رجب هذا تجلية لما أريد .. فالدعوة إلى معالي الأمور لا ينكرها إلا مجنون .. والذي أقصده هو كيف نبلغ المعالي .. هل تربية النشء بطريقة التكلف والحرج هي طريقة صحيحة .. أم آفة يجب اقتلاعها ومعالجتها فورا؟! ..

قال السري السقطي: لئن أقابل الله بكل ذنب إلا التكلف .ا.هـ.
وأبلغ من ذلك قول الله تعالى على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص/86]
وقد جاء في الحديث: "كان خلقه سجية لا تلهوقا" ..
قال الثعالبي: إذا كان يبدي من سخائه ومرؤته ودينه غير ما عليه سجيته فهو متلهوق.ا.هـ.
قريب من هذا .. ما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" عن إبراهيم قال: سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم إني أستنفق نفسي ومالي في سبيلك، فقال عمر: أولا يسكت أحدكم، فإن ابتلي صبر، وإن عوفي شكر.ا.هـ.

إن أفضل الطرق لتربية الشاب .. ليس حمله على التدثر بالفضائل والتحلي بالشمائل بسيف الحياء .. وجعل الشاب يتزيا بما لم يقر في قلبه بعد .. فإن نتائجه وخيمة .. وابحث هنا وهناك ستجدها! .. فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل .. وهناك فرق بين التورع والتوارع! ..

أول ما يعلم الناشيء عند بعض المجموعات التوارع والتكلف فيفسد عليه التوارع دينه ودنياه كما يفسد الذئبُ الغنمَ ..

أحيانا .. نعيّش الشاب في واقع يحتم عليه أن ينكر كل منكر من دخان وشيشة وموسيقى .. وشخصيته ضعيفة وتجربته قليلة .. نكلفه ما لا يطيق .. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. فنتحمل نحن جزاء ما صنعته أيدينا من أي نتيجة أو عقبى فادحة .. فيا فوز المربي الصادق الذي يغرس في صغاره شرف الدين! .. ويا خسارة المربي الكاذب الذي يغرس في صغاره الشرف للدين! ..

نعطي الشاب شريط "17 قصة مبكية" أو شريط "هادم اللذات" وننتظره يفرغ من سماعه ليعلن توبته ويسكب عبرته ..!

يقول معلم البشرية – صلى الله عليه وسلم –: "ما دعوتُ أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم" أخرجه ابن إسحاق ..
ونحن نريد الشباب كلهم أن يكونوا أبا بكر – رضي الله عن أبي بكر - ..
ومكلف الأيام ضد طباعها **** متطلب في الماء جذوة نارِ ..

إن التدرج سنة كونية وما ثاب إخوة يوسف إلا بعد دهر طويل .. وما آمن عدي بن حاتم إلا بعد تردد سنين .. وما دخل الناس في دين الله أفواجا إلا بعد تسعة عشرة عاما من الدعوة والتبليغ .. والناس متفاوتون والإيمان درجات .. ولا تخالط بشاشته القلوب إلا بعد تعب وبذل وتضحية ..
وهذه لا أحسبها تتحقق للكثير وهم في أولى خطوات الالتزام والتوجه للكريم العلام ..

إن أفضل أنموذج للتربية أُراه .. هي القدوة .. نعم هي القدوة الصالحة .. التي تأمر الناس بخلقها .. بتعاملها .. بنصحها .. بصدقها .. بالنور الذي منحه إياها باريها ..

قال الشيخ عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي في ترجمة أبيه يصف كيف كان يربيهم وينشئهم، قال: لا أذكر أن أبي قال لي يوما افعل كذا‍! أو لا تفعل كذا‍! إلا أنه كان يمدح العلم ويذم الجهل أمامنا .. إلا الصلاة فكنت كثير النوم فيوقظني لصلاة الفجر فأنام فيضع الإبريق في أذني لأستيقظ .. رحمه الله ..

اقرأ سير الأوائل وكيف تأثرهم بمعلميهم وشيوخهم بالدل والسمت والسيرة! .. رحمهم الله وقاتل الله أهل التكلف ..

الأحد، 1 أغسطس 2010

خروف العيد!! ..

قصة خروف العيد لهذا العام قصة غاية في العجب .. لو كُتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر .. [هذا الوصف متكرر في "ألف ليلة وليلة"] ..

ابتعنا خروف العيد اليوم قبل صلاة العصر .. كان خروفا حرّيا أملح أقرن .. منظره يسحر النعاج الغوافل .. بعد مماكسة طويلة ومد وجزر اشتريناه بـ825 ريالا .. نقدناها البدوي تامة كاملة ..

وضعنا الخروف في صندوق سيارة أخي .. الفورد فيكتوريا .. مبتهجين بالخروف الجميل السمين .. ما إن وصلنا إلى الدار .. قمت بفتح الباب الخلفي .. لندخل الخروف في الفناء مباشرة .. وكنا قد ابتعنا ربطتين من الحشيش نعلف بها الخروف حتى يوم العيد .. ملأنا تورا قديما بالماء .. وأدنيناه من الخروف ..

ما إن نزعنا ثيابنا .. وارتحنا من عناء سوق الغنم ورائحته الشذية .. إلا والصارخ يأتينا .. الخروف فر .. الخروف فر .. انطلقنا نعدو إلى خارج الدار .. والذي حدث أن أحد الأطفال
فضولا منه فتح الباب الخلفي .. ودخل ليرى الخروف .. فتحرك الخروف نحوه .. وارتاع الصغير وهرب من الباب ولم يغلقه خلفه .. فانسل الخروف من الدار يعدو .. ممتثلا قول الشاعر:

إذا هبت رياحك فاغتنمها **** فإن لكل خافقة سكونِ ..

انطلق الخروف يعدو كالحصان .. ركب أخي سيارته .. وكان السابق فينا .. وركبت سيارتي أتبعه .. كان الخروف قد وصل إلى نهاية الشارع .. وانحرف يمينا آخذا الجادة العظمى .. يركض لا يلوي على شيء .. حتى تضايق الشارع أمامه .. كانت جموع الصبية وأهل النجدات تعدو خلف الخروف .. وبعض سيارات المارة توقفت تتابع المشهد .. وحضر الجيران وأهل المشورة سريعا ..

من سوء الحظ أنه كانت هناك أعمال حفر تقوم بها إحدى المؤسسات الوطنية .. لإنشاء شبكة صرف صحي في المنطقة .. زعموا! .. كانت الأحفار محفوفة بسياج مهلهل غير مشدود ارتفاعه حوالي المتر .. المهم كان صبية الحي الصغار يلاحقون الخروف بسرعة وخفة .. حتى تمكنوا من حكره في زاوية صغيرة .. فهداه التفكير في الوقت الحرج أن يقفز فوق السياج .. ظنا منه أنه سيواصل العدو من الناحية الأخرى .. إذا به يسقط في حفرة عمقها حوالي تسعة أمتار! .. يهوي بها على أمّ رأسه! ..

تردى في الحفرة .. وارتطم بسيخ حديد .. وتقلب وسط مياه آسنة في قاع الحفرة .. حتى تلوث جسده بكامله ..

تجمهر أهل الحي والمارة .. يطلّون برؤوسهم إلى أضحية العيد .. وابتدأ الواقفون باقتراح الحلول العاجلة .. هنا .. تبرع أحد الصغار .. وهم كالشياطين في الحي .. إلا أنهم أحيانا يكونون أصحاب مواقف .. تبرع الشيطان .. أن يهبط في الحفرة .. (والشياطين كل بناء وغواص) .. ويربط الخروف بحبل وتقوم البقية برفع الخروف إلى الأعلى .. وفعلا .. أحضر العمال القائمون على أعمال الحفر حبلا طويلا مفتولا بسرعة شديدة .. ودلّوه للشيطان .. ربط الحبل في منتصف جسد الخروف .. ثم أشار لمن فوق أن يبدأوا الرفع .. قام ثلاثة من المتطوعين بالرفع .. والخروف يثغو ويئن من الآلام والجراحات والكسور .. حتى أنه في أثناء عملية الشد تنحبس أحيانا أنفاسه وينقطع ثغاؤه .. لتحسب أنه قد فارق الحياة .. بعد جهد جهيد .. أظهروه على السطح .. فإذا به خائر القوى .. هزيل الجسد .. به جرحٌ غائر .. لستُ أدري أهو "الباضعة" أم "البازلة" أم غيرهما من الجراحات؟! .. كان الجرح يثعب دما متخثرا .. طوله حوالي خمسة سنتيمترات .. وكان الخروف مبتلا بالمياه القذرة .. فاستحال لونه إلى أدهم بعد ما كان أملح ..

قبل أن يستوي الخروف على السطح .. كان بعض رجالات الحي قد اقترح إحضار سكين مسنونة بشكل عاجل .. لتتم تذكية الخروف قبل أن يجود بنفسه ..

بصراحة كان الخروف "قرفان" .. ومبتئسا من مصيره المنكود ..

لكن أشار البعض أن نحمله إلى أقرب "مطبخ" ونذكيه حالا .. وليكن "شاة لحم" والله كريم .. هذا ما أشار به جمهور الحاضرين .. وقبل أن نغادر المكان .. إذا الشيطان الصغير يصرخ من الحفرة ينادي: نسيتوني؟! .. فأرخوا له الجماعة الحبل وتمسك به فرفعوه حتى ظهر يدبُّ على الأرض .. فشكرنا له جميل صنعه وطيب فعله .. فصرخ: لا! .. هذا حق وواجب ..

جررنا الخروف وألقيناه في صندوق السيارة وأخذناه للدار ثانية .. كان هزيلا .. يمشي مرة على أظلافه ومرة على ركبه .. وجرحه يثعب دما .. ملطخا أرضية فناء الدار .. وقد تشوه منظره .. وتلبد صوفه .. وربض على الأرض وقتا طويلا بلا حراك ولا ثغاء .. حتى ليخيل لمن رآه أنه يقضي ساعاته الأخيرة ..

صلينا العصر .. واشتورنا في أمره .. هل نذبحه أم نتركه ليوم العيد؟ ..

استأجرنا عاملا فربطه بقطعة من القماش على جرحه الغائر .. وتركناه في الآي سي يو تحت الملاحظة المكثفة .. آخر التقارير الصحية أفادت أن حالته مستقرة إلا أن إعياءا شديدا بدا عليه ..

فما اقتراحاتكم أيها السادة؟! ..