مرحبا بالزوار ..

مرحبا بالزوار في مدونتي الأولى .. يسعدني تشريفكم وإطلالتكم .. (خالد الحربي)














الاثنين، 9 أغسطس 2010

آهات طفل في الابتدائي ..

1.

جميلة كانت تلك الأيام ..

بحلوها ومرها .. بمتعها ولذاذاتها .. بآلامها وآمالها ..

قبل عشرين عاما .. كنتُ في المرحلة الابتدائية ..

تذكرتُ ذلك الطفل الذي كان يعيش داخلي ..

كان بريئا .. صامتا.. وذا نظرة جادة للحياة ..

غير أنه نتيجة لحياة الشغب والتحرشات والفوضى ..

آثر الصمت وعزف عن المشاركة في الحياة السياسية .. وظل مراقبا للنزاعات طوال المرحلة الابتدائية .. لا يؤيد طرفا على طرف فضلا أن يتبرع بالتدخل مع طرف على طرف ..

مع ذلك .. ربما تودد يوما لبعض العمالقة والأشرار دفعا لأذاهم .. وتنازل عن حقوقه .. فائزا من الغنيمة بالعافية ..

في الفسحة .. كانت الناحية الأمنية شبه معدومة لا سيما في أطراف الفناء ووسط التجمعات ..

الأسوأ من ذلك .. الحال في الصرفة خصوصا في الشوارع الخلفية ..

فقد كانت "الصرفة" الموعد لأخذ الثارات ومناوشة الخصوم ..

ومعيار التفوق الوحيد: قوة البنية وإجادة فنون القتال من ركل ولكم ..

ضغوطات كبيرة تواجه طالب تلك المرحلة .. نفسية وجسدية ..


لا أريد التوسع في الحديث عن تلك المرحلة العجيبة ..

وإن كانت جديرة بالتوسع والدراسة ..

فقط أقدم هذه الورقة بقلم طفل في الابتدائي بعد أن تحرر من الرهاب

النفسي وانتقل إلى مراحل أخرى .. هدية لرجال التربية والتعليم
والأخصائيين الاجتماعيين والدعاة والمصلحين .. ليدركوا ما يواجه الطالب
في تلك المرحلة من مشكلات وصعوبات .. ويقدّروا حجم الرعب وانعدام الاستقرار النفسي الذي يعيشه طالب الابتدائي ..

2.

[القدوة الصالحة!]

عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي .. وفي نهاية الفصل الدراسي حدث وأن تغيّب أستاذنا لعدة أيام متوالية .. فضموا فصلنا إلى فصل آخر .. لم أكن متعوّدا على مدرّس الفصل الآخر .. لكن كنتُ دائما ما أراه من المشتغلين بتنظيم طابور الصباح .. كان حسن الهيئة دائم البسمة ويرتدي نظارات طبية .. وهي التي رفعت قدره عندي ..

كان مبنى المدرسة مستأجرا يقع في أحد الأحياء القديمة .. فحُشرنا أكثر من ستين طالبا على أقل تقدير في فصل ضيق .. ربما كان يقابل كل ثلاث ماصات أربعة كراسي! .. وربما تقاسم طالبان كرسيا واحدا!! ..

بدأ المدرس دائم البسمة الشرح .. كان يشرح مادة الرياضيات .. نسيت موضوع الدرس .. لكن أحسبه عن الأعداد الكسرية أو توحيد المقامات أو شيء قريب من هذا .. بعد أن مضى نصف الحصة سأل المدرس الطلاب: مين ماهو فاهم؟! وحرّج على من لم يفهم أن يرفع أصبعه .. لاحظت أن عينا الأستاذ تتقدان .. فلم أعر ذلك اهتمام .. رفع عدد من الطلاب أصابعهم .. فأعاد الأستاذ: هل يوجد غير هؤلاء؟! وهدد أنه سيكشف غير الفاهمين بطريقته الخاصة .. فما وجدت بدا من رفع أصبعي مغلبا جانب السلامة .. جمع الأستاذ كل من رفع أصبعه جانبا .. وأحضر عصا وضرب كل واحد منا عصاتين .. عدت لمكاني مستنكرا ومقهورا .. وأعدت النظر في رأيي القديم في ذلك الأستاذ .. ونزل من قدره شيئا ..


استمر الأستاذ يشرح مديدة .. ثم صرخ ثانية: مين ماهو فاهم؟!! وتهدد وتوعد من لم يفهم أن يعترف وإلا ناله العقاب الشديد .. مشيرا إلى أنه لن يعاقب من يعترف بعدم الفهم .. ولشدة التهديد والترويع هممتُ برفع أصبعي إلا أنني تشككتُ في مصداقية وعود الأستاذ .. رفع عدد من الطلاب أصابعهم غير أنهم أقل من العدد الأول .. وشاء الله أن أرفع أصبعي معهم .. فنحانا جانبا وقرّعنا أولا بلسانه السليط ثم انهال علينا ضربا لم أتوقعه .. عدت إلى مقعدي محبطا من إنسانية هذا الأستاذ ووعوده الكاذبة .. وإن كنتُ متيقنا أن هناك أعدادا من الطلاب لم يفهموا الدرس ولكنهم فهموا اللعبة ..

أعاد المدرس شرحه التقليدي .. وأعترف أنني كنتُ مذهولا عنه به .. وقبل أن يدق الجرس أعاد سؤاله البايخ: مين ماهو فاهم؟!! وأكد أنه في هذه المرة لن يضرب أحدا رفع أصبعه .. وأعطى العهود والمواثيق .. وبرر ذلك أنه قد ضرب من لم يفهم فلا جدوى من ضربه مجددا .. وما زال يلين الكلام ويفتل في الذروة والغارب .. حتى اقتنعتُ في كلامه أنا وطالب آخر ..

وفعلا راجعتُ نفسي وفكرت وقدرت فوجدتني غير فاهم على الحقيقة .. رفعت أصبعي التعيسة ورفع الآخر أصبعه مطمئنين لوعود دائم البسمة .. ومعتقدا أننا نلنا من العقاب ما يكفي .. لم أكن متوقعا أن ينكث هذه المرة أبدا ..

لمعت في عيني الأستاذ ابتسامة من نوع آخر .. وأُمر بنا فأحضرنا إلى مقدمة الصف .. وانهال علينا ضربا مع قرع الجرس معلنا نهاية الحصة .. عدت إلى مقعدي وقد احمرّ كفاي وآلماني ألما شديدا .. غير أن الألم الذي اشتعل في نفسي كان أشد وأنكى .. كيف يعدنا تلك الوعود ويطمنا بمعسول الكلام ثم بعد ذلك يقلب لنا ظهر المجنّ .. لقد كرهتُ ذلك الأستاذ كرها جما .. وما رأيته بعدها في نواحي المدرسة إلا نفرت منه .. والحمد لله أنه لم يدرسني طوال المرحلة الابتدائية ..!

3.


[المدير الأحمر]

كان مديرنا في تلك المدرسة رجلا صارما .. جامد المشاعر .. نادر الظهور .. سواء في طابور الصباح أو في الفسحة .. لم أره يمدح أو يذم أحدا أو حتى يخاطب أحدا إلا مرات قليلة كان يصرخ فيها صرخات مفزعة .. أما الحفلات والمهرجانات .. فلم أره ألبتة .. لا لشيء .. سوى أنه لم تقم في مدرستنا أية حفلة أو مسابقة ثقافية أو رياضية طوال المرحلة الابتدائية! ..

كان الطلاب يعانون من كبت ونمطية ورتابة لا جديد فيها .. فاليوم كأمسِ .. وغداً كاليوم .. كل وسائل الإبداع والتحفيز والتشجيع كانت معدومة .. زد على ذلك ضيق المبنى وقلة الأفنية .. دعك اهتراء وتلوث دورات المياه .. التي لم تتوافر فيها أدنى الشروط البيئية والصحية والإنسانية ..

والذي زاد الطين بلة أنه كان في جوارنا مدرسة ابتدائية أخرى .. ذات مبنى حكومي واسع .. لا يفصلنا عنها سوى شارع لا يزيد عرضه عن عشرة أمتار .. ويبدو أنه للانفجار السكاني والتوسع الديموغرافي دور في إنشاء مدرسة جديدة (مدرستنا) لاستيعاب طلبات التسجيل من قبل أهالي المنطقة ..

كانت المدرسة المجاورة تعج بالأنشطة اللامنهجية .. جمعية الصحافة .. جمعية النظام .. جمعية التوعية الإسلامية .. جمعية الزراعة .. جمعية المسرح .. والمسابقات والرحلات والمعسكرات الكشفية .. وكنا نسمع أنهم يلعبون الكرة يوميا في الفسحة بل وبعض مدرسيهم يشاركوهم .. وأن هناك دوري لكرة القدم تشارك فيه كل فصول المدرسة .. فكانوا بالنسبة لنا يعيشون حياة حرة مزدهرة .. تهيئ الطالب للانطلاقة النفسية .. وتنمي فيه الروح الاجتماعية .. وتصقل فيه الملكة الإبداعية ..


أما نحن .. كنا في مدرستنا الحمراء نتسامع بزملائنا وراء النهر .. وبما يحصلون عليه من صلاحيات وامتيازات .. وقبل ذلك كله الكرامة والاهتمام والعناية التي ينعمون بها من قبل إدارتهم .. فكان ذلك يزيدنا أسى وألما .. كأننا ألمانيا الشرقية وكأنهم ألمانيا الغربية .. وكأن سور مدرستهم جدار برلين .. فيا سعد من عبره إلى العالم الحر! ..

النشاط اللامنهجي الذي أقره مديرنا الكريم .. هو جماعة النظام .. الذين لم يكن لهم زي خاص أو منديل يربط في العنق كسائر المدارس .. بل بطاقات حمراء معلقة في الجيب الأعلى مكتوبا فيها اسم عضو "النظام" ..

كانت هناك أيضا جماعة الإذاعة .. لا أدري متى استحدثت .. وكان يديرها ويقوم بكل أعمالها طالب واحد! .. أذكره لما كان في الصف الخامس .. وكان يسبقني بسنة .. كانت له مهمة واحدة .. وهي أنه حين يقرع الجرس معلنا بداية الفسحة ينطلق إلى غرفة الإذاعة ويفتح الباب ويغلقه على نفسه ويقوم بفتح جهاز تسجيل فيه شريط لعبد الباسط عبد الصمد .. ويقوم بتقريبه من جهاز اللاقط (المايك) .. فمنذ بداية الفسحة إلى نهايتها ولا شيء يطرق مسامعنا غير تلاوات عبد الباسط عبد الصمد .. لا زلت أتذكر تلك الترنمات العذبة الندية .. تصدح بنا في كل فسحة أثناء تناول السندوتش والبيبسي ..

حدث تجديد واحد على النشاط الإذاعي .. فقد تبرع عريف فصلنا (م.ص.) لجمعية الإذاعة بشريط أناشيد إسلامية .. لا علبة له ولا غلاف .. لا أدري كيف حصل عليه! .. فقد كان وجود أشرطة الأناشيد الإسلامية تلك الأيام عزيزا .. فكانت جمعية الإذاعة تنعم على الجماهير أحيانا فتذيعه لهم .. كان من مقطوعات تلك الأنشودة:
وعلى اليرموك تراتيلُ **** من أهل الذكر وتنزيلُ

العجيب أن عريفنا (م.ص.) كان كثير اللعب في الفصل واللهو عن الدراسة .. إلا أن فيه دعابة ومرح وطيبة قلب! ..

تأسست أيضا جمعية المكتبة .. وكان يديرها أيضا صاحب "الإذاعة"! .. ومكتبه نفس المكتب أو قل القبو الذي يقبع فيه ليبث إذاعته المشهورة ..


كان له مساعد قصير القامة يساعده للشئون المكتبية .. وقد حدث مرة وأن فتح باب الإعارة .. سمعت بذلك فذهبت لأستعير مع المستعيرين مضحيا بالإفطار .. لأنه عليك إما أن (تتفسّح) أو تستعير كتابا ..

تكبدت المشاق .. وصففت في طابور المستعيرين .. إذا بالمساعد القصير قد جمع عددا من الكتب ووضعها أمامه فوق بعض .. وعليك أن تأخذ أعلى كتاب وصل عليه دورك .. ولا خيار لك .. فعند ذلك المساعد من حجج الإقناع والتعلل بضيق الوقت ومنفعة كل كتاب ما يجعلك تقبل بأي شيء .. وصل دوري عند نهاية الفسحة .. أخذت أعلى كتاب وكتبت اسمي ووقعت في دفتر الإعارة ..

كان الكتاب الذي من نصيبي "16 حكاية من الحارة" لمحمد صادق دياب .. أخذته للبيت .. وقرأته كاملا .. وأقرأته أقراني .. وسط إعجاب شديد بالمزايا التي صرنا نتمتع بها ..

الجدير بالذكر أن جمعية المكتبة هذه أقفلت .. لأن الطالب الوحيد القائم عليها قد تخرج من الصف السادس! ..

شقيقي الأكبر كان في المدرسة المجاورة .. حدثني مرة أنهم قاموا بزيارة لمصنع البلاستيك مع أساتذتهم .. وكيف وُفرت لهم الحافلات .. وكيف رحّب بهم مهندسو المصنع .. ووزعوا عليهم هدايا عبارة عن أكواب بلاستيكية! .. فأحدث كلامه لي صدمة ثقافية ..


حدث مرةً واحدة .. ربما إنني كنت في الصف الخامس .. أن شاركت مدرستنا في نشاط رياضي عالمي .. فقد سمعت من الطلاب أن مدرستنا (ح) سوف تلعب مباراة مع المدرسة التي في جوارنا (ق) على أرضنا .. في البداية كان الخبر محل شك من بعض الطلاب لولا ذيوعه في معظم أرجاء المدرسة ..

لم يخبرنا أحدٌ رسميا لا في الإذاعة ولا في طابور الصباح ولم يُعلق إعلان يوضح يوم المباراة واسم الفريق الضيف .. حيث لم تكن هناك لوحة إعلانات ..!

المهم .. قرع جرس الفسحة ذلك اليوم .. فاحتجزَنا المدرسون في فصولنا قليلا .. وفهمنا منهم أن اليوم ستكون المباراة .. ففرحنا جدا أن هناك خروجا عن المألوف .. طال احتجاز المدرس لنا فزاد صخب الطلاب .. فأفادنا بهدوء أن الحوش صغير ولا يسع أن تُلعب فيه مباراة وأن نتفسّح فيه في نفس الوقت! ..

كان كلامه يعني أن نبقى في الفصل .. ونؤثر الحوش لضيوف المدرسة .. سرت في الطلاب موجة إحباط بالغة .. ولكن قدّر الله الخير .. فتمكنا من النزول بعد أن بدأت المباراة .. تكدس طلاب المدرسة كلهم في شريط ضيق حول الحوش لا يزيد عرضه عن المترين .. ورغم حياة الاضطهاد والمرارة التي كنا فيها .. مع ذلك .. فقد كنا نشجع فريق مدرستنا بحرارة رهيبة .. وانفجرت فينا الروح الوطنية المختزنة من سنوات .. واستمتعنا بحق التعبير عن الذات ..

بلادي وإن جارت علي عزيزة **** وأهلي وإن ظنوا علي كرام

رغم تشجيعنا وهتافنا الضخم كانت هناك روح انهزامية خفية تبشر بنتيجة غير مطمئنة .. بسبب الواقع المرير الذي كنا نعيشه .. ففريقهم دائم التمرّن وله خبرة بالمشاركات الخارجية وذو روح معنوية عالية ..

وفريقنا لم يتشكل أصلا إلا بعد تحديد موعد المباراة .. التي ما تمت إلا بعد مفاوضات طويلة مع مديرنا الأحمر .. عموما .. حتى الآن لا أعلم نتيجة تلك المباراة اليتيمة .. فعند اقتراب موعد نهاية الفسحة .. هجم علينا المدرسون المسئولون عن استتباب الأمن في الفسحة .. وحاشونا كالغنم المدفوعة إلى فصولنا .. فحدثت جلبة وتصادم وركض وتساقط .. حتى دخلنا الفصول .. فلم ندر كم انتهت المباراة .. فقائل قد فزنا .. وقائل قد هزمنا .. وإنني لأحسبها الأخيرة ..


4.

[أستاذنا م.ب.]
بعد أن صرت في الصف الرابع .. جدّت علينا موادّ لم نعهدها .. كالجغرافيا والتاريخ والقواعد .. زاد عدد المدرسين الذين يدرّسونا .. كان يدرسنا مواد العربية الأستاذ (م.ب.) .. كان ذلك الأستاذ قاسيا.. جبارا .. مرعبا .. بكل المقاييس .. كان أسمر شديد الأدمة .. جاحظ العينين .. لا يعرف الابتسامة ولا التبسم .. له صوت مجلجل .. يبدأ خافتا كفحيح الحية .. ويزيد في الجهارة حتى يصير كزئير الأسد .. أما شعر رأسه فقد كان كثيفا ثائرا قد خرج من فوق أذنيه وتحت غترته .. كأن اجتماع صفاته الخَلقية والخُلقية مثال على التلاؤم بين التركيب والوظيفة في علم الحياة .. وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه ..

كان ذلك الأستاذ لا يمكن أن يعيش بدون عصا .. فإن احتاجها ولما يجدها .. يصيبه مثل الهياج العصبي .. ويصرخ على الطالب الذي أمامه أن يحضر عصاً في أسرع وقت .. ويمضي يلف ويتلفت ويفرك يدا بيد .. ويصدر فحيحه .. فإذا أمسك بالعصا سكن وهدأ روعه شيئا .. استعدادا للغارة الكبرى ..

كانت المواد التي يدرسناها سهلة .. كالمطالعة والأناشيد لكن القواعد .. التي كانت حصتين في الأسبوع .. لكنها كانت أرهب وأنكد وقتين في الأسبوع .. فعند دخوله الفصل .. تعتري المكان قدسية ورهبة وترقب ووجل .. تتزايد فيه معدلات نبضات القلب .. ويخيم الوجوم على الوجوه ..

يدخل فيسأل سؤالا أو سؤالين .. فإن وجد في الجواب خطأ أو تعتعة .. أمر الجميع بلزوم مقاعدهم .. وأن يصير كل واحد كالتمثال لا يتحرك .. هكذا باللفظ .. ثم يبدأ بشد ذراعه يمرنها .. ثم يهجم علينا هجوما كهجوم أبي حية النميري .. والويل لمن توخى الضربة التي من نصيبه .. فربما وقعت على الكتف أو الصدر أو الوجه .. حتى يصل إلى آخر الصفوف .. وبعد أن يفرغ من مهمته تنفرج أساريره شيئا ويبدأ في الدرس الجديد ..

حقيقة أنني اكتسبت ملكة جيدة في علم النحو .. لازمتني طول حياتي .. منذ الصف الرابع .. وفي المراحل المتوسطة والثانوية حتى الجامعية .. ونلت الجوائز على التفوق في النحو بالذات .. ربما يعود السبب في ذلك إلى أستاذنا (م. ب.) .. ربما ..!!

كان ذلك الأستاذ يتفنن في صناعة أنواع العقاب .. النفسية والجسدية .. فضلا عن الرهاب النفسي والإبادة الجماعية التي نتعرض لها في الصف .. كان يصدر قرارات أسبوعية .. يمنع فيها الطلاب الذين أخطأوا الجواب أو لم يحلوا الواجب من النزول لحصة الرياضة! ..

في كل حصة رياضة .. يأتي إلى فصلنا قبل أستاذ الرياضة .. الذي لا يأتي أصلا .. ويقول: فلان وفلان ممنوع أن تنزلوا إلى الحوش! .. وإن نسي يوما .. فهناك من المتطوعين من يتبرع بتذكيره فيأتي ..

كان هناك عددٌ قليل من الطلاب لم ينعموا بحصة الرياضة منذ صدور قرار المنع .. كانت أسماؤهم دائما في القائمة السوداء .. ولكن من حسن حظهم .. أو ربما لسوء حظهم .. أن نافذة فصلنا مطلة على الحوش .. فكانوا يشاهدوننا من خلالها حينما ننقسم إلى ثلاثة فرق .. ربما كان هذا يخفف عنهم ألم الحرمان وربما يزيدهم ألماً إلى ألم ..

حدث وإن أدرج اسمي يوما في القائمة السوداء .. ولستُ أذكر أنني قصرت أو أهملت في شيء .. ولكنني لم أعترض .. فعشت ذلك اليوم حياة المحرومين .. وجعلتُ أنظر معهم من خلال النافذة الصغيرة ..

الطالب (غ.م.) كان بليد الذهن .. كسولا .. ومتأخرا في دراسته .. كان ينال أشد العقاب من الأستاذ (م.ب.) .. دائما ما كنت أسمع صراخه واستغاثاته من شدة الضرب الذي لم يكد يسلم منه يوما .. كان مقعده في آخر الصفوف .. كنت أسمعه من ورائي .. ولا أجرؤ أن ألتفت إليه من شدة الرعب .. والأستاذ يتهدده ويتوعده ويقسم له إن لم يمد يده وإلا فسيقوم بتبنيجه حتى يتمكن من ضربه .. كنت أفكر ما معنى تبنيج؟ وما البنج؟! .. وهل بلغ الأمر إلى حد التبنيج؟!! ..

مسكين زميلنا (غ.م.) لم ينزل إلى حصة الرياضة من تاريخ صدور قرار المنع .. الذي اتخذه في وقت مبكر من الفصل الدراسي ..

مرة نسي الأستاذ أن يأتينا .. فهمّ المتطوعون بإخباره إلا أن (غ.م.) لوّح لهم بيده في إشارة تعني الانتقام .. فحاروا وسكنوا .. نزل ذلك اليوم يلعب معنا .. لكم أذكره وهو يعدو خلف الكرة جذلا منتشيا في لحظة استثنائية ..

بعد انتهاء الحصة .. نمى إلى علم الأستاذ أن (غ.م.) قد نزل ولعب في حصة الرياضة .. فكأن قد أتى بإحدى الموبقات السبع .. فنال ذلك اليوم عقابا شديدا.. ربما أنه كان مقدرا سوء العاقبة .. ولكن يبدو أنه لم يحفل كثيرا لاستمرائه الضرب والجلد والتبنيج!! ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق